الطريق إلى الدار
مقالات

الطريق إلى الدار

كتبت في الدقيقة التي سمح للنازحين بعبور حاجز نتساريم والعودة إلى شمال القطاع ومدينة غزة كلمة واحدة وهي: عادوا، فيما كتب الكاتب الساخر حسام أبو النصر كلمة: عبروا، والحقيقة أن كلمة العبور ربما تبدو اكثر عمقا لأن العبور كانت فيه مشقة وقد انتظروا طويلا لأنه بالإضافة لأربعمائة وسبعين يوما هي أيام الحرب الطاحنة التي ألقت بهم إلى الجانب الآخر الجنوبي من وادي غزة فهم قد انتظروا أسبوعا لبدء تنفيذ بنود اتفاق الصفقة، وانتظروا يومين من المماطلة مرت عليهم كدهر وهم ملقون على الطرقات وفوق الأرض المشققة والمهدمة الأرصفة وبين برك الماء الصغيرة الآسنة، ورغم ذلك فقد عبروا وانتقلوا حيث المرتع الأول والوطن الأول وحيث عاشوا منذ فتحوا عيونهم على الحياة.

ورب قائل سيقول، إن قطاع غزة صغير المساحة وان كل القطاع لأهله، ولكن هناك فرقا بين مكان وآخر وبين بقعة وأخرى مثل أن يحدث انك لا تعرف النوم إلا في سريرك بل يكاد يقسم كثيرون انهم لا يعرفون النوم إلا حين يضعون رؤوسهم فوق وسادتهم الخاصة وهناك من يحملونها حين يضطرون للمبيت عند احد الأبناء أو يحلون ضيوفا لو حتى لليلة واحدة.

قلت للجميع أمام محاولة الإشارة إلى أن هذه الحالة لا يمكن أن يطلق عليها عودة قلت لهم، إننا مثل القطط التي يعز عليها المكان ومثل الكلاب التي يعز عليها الصاحب وإننا جمعنا بين صفات هذين الحيوانين الأليفين المحببين للإنسان ولأن جدتي دائما ما كانت تشير إلى عظم تمسك القط بالبيت وبأنه يعود من اجله ومن اجل مكانه بجوار الموقد حتى لو تغير سكانه على العكس من الكلب الذي لو عاد إلى البيت ولم يجد صاحبه فسوف يمدد ذراعيه فوق قبره.

في غزة مسقط رأسك، يعز عليك البيت والحارة والجيران بالطبع، ولا يمكن لأحد أن يتخيل أن تنتزع من كل هذا في لحظة وبقرار مجنون وحشي وظالم وتصبح فجأة في العراء ولا يحميك سوى السماء فوق رأسك كسقف وقماش الخيمة ويطلبون منك أن تقضي اكثر من سنة وان تعود لتمارس حياة بدائية وتجرب شظف العيش وفوق كل هذا الخوف والرعب والموت المتربص بك وبأطفالك وأحبتك في كل دقيقة ثم يقولون لك يجب ألا تبالغ في الفرحة لأنك ستعود إلى الدمار والأنقاض وربما ستحمل خيمتك معك.

انت وحدك الذي تعرف ما معنى أن تعود وتعبر كل هذا العالم الذي أصبحت تعيش فيه بوحشة قاتلة تسلب منك روحك وإنسانيتك، تتلهف لكي تعود إلى الهواء الذي تتنفسه وحتى إلى المقبرة التي تضم رفات أحبتك الذين ماتوا منذ زمن بعيد ولكنك تجلس كلما قتلك الحنين فوق شاهد قبر متآكل لتتلو آيات من القرآن الكريم وتسرح بخيالك مع الذكريات التي تجدها حاضرة وتنساب دموعك وتشعر أن الحبيب لم يغادر وانه اقرب مما كان لأنك أمام ما تبقى منه وحيث تطمئن انك كلما احتجت إليه سوف تمشي إلى أطراف المدينة وتصل إليه، ولكن الحنين الذي قتلك لقبر أبيك الذي رحل منذ سنوات قد ازداد وأصاب روحك بخدوش ملتهبة لأنك كنت في خيمة على شاطئ البحر ولا ترى سوى الحاجز والظلم وأضواء مشعة بوحشية من ثكنات العدو الذي يمنعك من العبور إلى اقل ما تملك وابسط ما تريد في حياتك.

سئل احدهم لماذا كان يتعجل العودة فأجاب بصدق، إن قلبه الذي يريد وهو يعرف انه لم يعد يملك في شمال غزة لا بيتا ولا متجرا ولا أي أدنى مقومات الحياة، ولكنه القلب المثقل بالحنين والشوق والذي من الصعب أن يغير بوصلته أو ربما قد مضى به العمر فلم يعد يملك الكثير منه لكي يغير البوصلة ويريد أن يعود لكي يغمض عينيه الإغماضة الأخيرة وهو يشم رائحة المكان والأحبة الباقين والراحلين، ولذلك فقد رأينا مسنة في الطريق إلى الدار تغني فرحة وربما أصبحت أيامها في الدنيا تعد على الأصابع ولكنها تغني وهناك من يدفعها على كرسي متحرك: يا حلالي يا مالي....... بدي ارجع لداري.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.