بيت أكرم وأماني وخالد وكارمن
لأطمئن على بيته الذي في الشمال والذي عاد اليه من الجنوب مع آلاف النازحين، أهو واقف كما يقال باللهجة الغزية أم هو ركام؟ اتصلت بالكاتب الصديق أكرم صوراني أمس.
لم يرد أكرم على مكالمتي، فتوجست إحباطاً، وتخيلت بيته حطاماً كما حصل مع بيوت أصحاب لي كثيرين هناك، ورأيته في مخيالي واقفاً مع أماني زوجته وابنته كارمن وابنه خالد، أمام الأنقاض يبحثون بعيونهم المنهكة عن ثغرة تحت سقف ليندسوا فيها ويبيتوا ليلتهم الأولى فيها، رأيت خيمتهم التي حملوها معهم من الجنوب، رأيتها تنتصب قرب الأنقاض، رأيت كارمن تركز نظرها المضطرب على الحجارة هنا وهناك بحثاً عن بصيص حياة للعبتها، ورأيت خالداً وهو يزيح حجراً هنا وهناك، علّه يعثر على شيء مهم لم يبح به لأحد. لكن كل ذلك لم يحدث والحمد لله، العكس تماماً هو الذي حدث، اتصل أكرم منتصف ليلة أمس ضاحكاً يتطاير صوته من فمه: شوف بيتنا يا زياد، احنا نايمين في أسرتنا، وأماني راح تعملك المسخن بعد الحرب كما وعدت، البيت واقف وموجود وسط أهوال القيامة في مدينة الزومبي، يا الله يا صاحبي وطني هو بيتي هو خصوصيتي، أنا الآن في وطني.
أرسل لي أكرم فيديوهات للعائلة، توثق رحلة الوصول الى البيت، رأيت كارمن تحتضن دبدوبها، وخالد لابساً الكوفية مشغولاً بتنظيف الأرض من الغبار، ولم أسمع من أماني التي كانت تصور البيت إلا صوتها الباكي الضاحك، رأيت الأسرّة والمروحة والطناجر والمعالق وطاولة السفرة والكراسي، والتحف والمرايا وبلاط الدرج، والستائر والمرحاض بكل مفرداته من سيفون وشطافة، ومناشف وصابون وشامبو، والغسالة والثلاجة، والكتب، رأيت أدراج الخزانة مفتوحة دون أن يمس محتوياتها أحد، ربما يتساءل أحد ما أهمية ذكر كل هذه المفردات؟ بالنسبة لنا ليس هناك أي معنى، لكن لأهل غزة الذين عاشوا في خيام، مع جردلي ماء وعشرات الغزاة من فئران وحشرات، وشمس حارقة وبرد ذابح، وفقدوا بيوتهم بمفرداتها أو ابتعدوا عنها مدة 15 شهراً، فهذا له كل المعاني، وكل الاعراس.
صاحت كارمن: أريد أن أجلي كل الأواني عشرين ألف مرة، اشتقت للجلي الطبيعي في بيتنا، وصاح أكرم: أريد أن أجلس على الشرفة أشرب القهوة وأنادي على الجار، وانفجر صوت أماني الذي ما زال مزيجاً من دموع وفرح: أريد أن أعمل حفلة صغيرة اسمها غسل الستائر والوسائد والفرشات والاغطية، أما العرس الكبير الذي سأكون فيه العروس والمهر والاغاني، والرقصات فسأعمله وحدي: أريد أن أشطف درج العمارة كلها، وحدي مع الماء، وحدي تماماً.
حمداً على سلامة بيتك وعائلتك صديقي الكاتب الساخر، فإذا كان هذا البيت الذي ابتعدت عنه 15 شهراً، ونمت بعده في عراء التاريخ، أخذك الى ذروة الدهشة وقمة اللاتصديق السحري، فما الذي سيشعر به مئات آلاف اللاجئين في غزة وفي كل فلسطين والمنافي، حين يعودون الى بيوتهم وأراضيهم في عكا وحيفا ويافا وباقي المدن الفلسطينية المحتلة؟