المستقرظات سياسياً ووطنياً
مقالات

المستقرظات سياسياً ووطنياً

عندما كبرت صرت أستغرب، بعدما قرأت أو سمعت روايات أخرى لنصوص الأمثال والقصص الشعبية كيف كان القرويون يغيرون من صيغها، لكن الأكثر غرابة بالنسبة لي كطفل وفتى، هو أنهم كانوا يرددون تلك الألفاظ بدون حرج، لهذا عندما استغرب أحدهم ونحن نشاهد مونودراما المتشائل، لمحمد البكري، حين نطق عبارة «صحينا من.... الليل»، خففت استغرابه، قلت له هذه بلاغة شعبية، تترك أثراً كوميدياً، وليست لغاية أخرى.

المونودراما المسرحية «المتشائل»، هي عن رواية الراحل إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» التي صدرت عام 1974، والتي وصفت بأنها من أهم الروايات العربية سخرية، والتي عندما ازدادت خبرتنا مع العمر والكتب معاً، وجدتها من أهم الروايات العالمية في التعبير عن مضمون البقاء الإنساني المقاوم، والذي استطاع التكيّف الذكي، وإلا كيف كان سيكون مآل من بقي في فلسطين عام 1948، حينما وجدوا أنفسهم وحيدين في عزلة عن الأشقاء الفلسطينيين والعرب؟!

ترى هل يقول المحتل: الآن ارتحنا، وهو يهيئ له أن العرب انتهوا في ظل اختفاء ما كان يصطلح عليه «الممانعة»؟

الأخبار السياسية منذ بدء الصفقة ما زالت تعبث بنا، تستدرجنا، فما هو فوق الطاولة سيظل دافعاً لنا لنحاول معرفة ما تحتها.

هكذا وجدت نفسي أتذكر المستقرظات، كمزارع يحمل همّ الشجر الذي لم يرتوِ هذا العام من ماء السماء، وككاتب أفكر في قصة العجوز التي حين شعرت بالدفء في آخر شباط، راحت تهينه وتسخر منه.

ومعروف أن المستقرظات 7 أيام؛ أربعة منها آخر شهر شباط وثلاثة في بداية شهر آذار، تتميز عادة بهطول المطر.

وكنت أسمع والدي رحمه الله مع رفاقه المزارعين وهم يؤملون أنفسهم؛ فحين كان يتأخر مطر شباط، كانوا يتفاءلون بـ «المستقرظات»، وطال الوقت حتى عرفت معنى الكلمة، التي كنت أتساءل ببراءة، ما الذي يربط المطر بالإقراض!

لكن والدتي رحمها الله كان يعنّ لها كل عام، أن تعيد قصة المستقرظات مع العجوز، حيث كانت تلمع ابتسامة والدي حول كانون النار.

كانت الوالدة ساردة جميلة جداً، ومنها تعلمت ما أنا به، كانت تروي قصة العجوز وأغنامها التي مع دفء شباط «شباط الخباط بشبط وبخبط وريحة الصيف فيه» راحت تتندر على شباط قائلة «فات شباط الخباط وما أخذ مني لا نعجة ولا رباط، وضربنا على ظهره بالمخباط». طبعاً كان الدقاقوة، وقرى القدس يروون العبارة بطريقة أخرى: «راح شباط و.....المخباط»، ولعل رواية قرى القدس هي الأقرب، وهي التي جعلت شباط يغضب لكرامته، فذهب الى آذار فقال «آذار يا ابن عمي ثَلاثتك منَّك وأربعة منّي تا نخلي الواد على العجوز يغني».

أما أنا فكنت أحزن على أغنام العجوز، خاصة «السخول والجديان «المولودة حديثاً، كذلك على ابنَي العجوز عبد الرحيم وعبد الكريم، هامساً ببراءة: ما ذنبهم!

للقرويين في السبعينيات أن يتجمعوا حول كانون النار، حيث سماع الحكايات الشعبية، وللناس اليوم أن يتجمعوا لسماع الأخبار حول وسائل تدفئة جديدة، فقد خفّت «كوانين» بيت دقو، فيما كانت الكوانين في الماضي تنير أمام بيوت القرية من أولها حتى آخرها، قبيل أذان المغرب بقليل.

هل قال المحتل: راح العرب و....المخباط؟
لربما، بعد التحولات في لبنان وسورية قد قالوا مثل هذا، لكن لعل هناك مستقرظات سياسية!

إنه الأمل، بأن يصحو العرب فعلاً فلا يقبلون هذه الإملاءات: «آذار يا ابن عمي ثلاثتك منك وأربعة مني تا نخلي الواد على دولة الاحتلال يغني»، فلن تنتهي المعجزات ما دامت هناك إرادة.

وضمن ما سنستمع لبعضنا بعضاً فيه، في آذار، بعد انتهاء المستقرظات، هو ما رشح من حوار بين حركة حماس والولايات المتحدة، أما حماس فتعلي من شأنه حسب قولها «جاءت المحادثات بعد طلب أميركي لتقديم بادرة حسن نية»، مشيرًا إلى أن الحركة «طرحت إمكانية التفاوض على صفقة شاملة لوقف الحرب»، في حين تخفض الولايات المتحدة منه: «واشنطن وضعت إطلاق سراح المواطن الأميركي عيدان ألكسندر على رأس أولوياتها، إلى جانب استعادة جثامين أربعة مواطنين أميركيين آخرين».

لقد ظهر هذا الخبر بعد انتهاء القمة العربية، وبعد الحديث الأميركي عن «نزع السلاح»، تلك القمة التي منحتنا الشكل وأخذت منا المضمون.

للأسف ما زلنا نتشظى عربياً وفلسطينياً، ولعل من سخريات المفارقات في الاشتباك مع الاحتلال أننا لم نحارب معاً، ولم نسالم معاً، ولا أتقنّا مضمون التكتيك «اضرب كف وعدّل طقية».

بدناش نقول ما كان من الأول، فالوقت ليس مناسباً لا للعتاب ولا اللوم.

للدول الكبرى أساليبها في علاقاتها الدولية، لذلك فليس غريبا أن تجري الولايات المتحدة حواراً مع حركة حماس منذ سنوات وليس منذ أشهر، فقد فعلت ذلك مع منظمة التحرير التي كانت تصنف فصائلها بالإرهابية. وهي التي أجرت وتجري دوماً حوارات مع فئات ودول تعاديها، فالتفاوض أصلا يتم بين المختلفين. وبالرغم من انطلاق الولايات المتحدة من مصالحها أولاً، إلا أنها هنا تعني دولة الاحتلال لما بينهما من علاقة عضوية حدّ التماهي.

المحذور هنا هو أنه في الوقت الذي تجمع الدول العربية على مقترح معيّن، فإن من المفروض هو الاستمرار به معاً؛ «فالذئب يأكل الغنم القاصية».

مشكلة حركة حماس أنها تطرح نفسها بديلاً لمنظمة التحرير، وهذا يصيبها ويصيبنا في مقتل، بل هذا ما يحدث للأسف. فبالرغم من النقد الموجه لمنظمة التحرير حتى من داخلها، إلا أنها استراتيجياً ما زالت ليس فقط ممثلة للشعب الفلسطيني، بل إنها المحافظة على الوحدة القانونية والسياسية بين الضفة الغربية وقطاع غزة.

إن حق تقرير مصير شعبنا يتحقق من خلال شعبنا الواحد، من خلال وجود الكل الفلسطيني في منظمة التحرير، فلا ينفع لوم المنظمة والعتاب عليها، فهي الحاضنة لشعبنا، وهي له.

وأخيرا، وبالرغم مما كتمناه من تحفظات على نتائج مؤتمر القمة العربي، من خلال تفاؤلنا بالنظر الى ما هو ملآن من الكأس، فإن الخلاص الوطني يعني مضمونه: خلاص الوطن، وليس فئة ولا جغرافيا محددة.

نتأمل قليلا: لنسأل أنفسنا لماذا تختار دولة الاحتلال مفاوضتنا فرادى؟ ولماذا أيضا تحاربنا كذلك؟ الجواب أنها من خلال تفريقنا وتفرقنا، تستطيع إنجاز نتائج من منظور مصلحتها.

وبانتظار تنفيذ المقترحات العربية، فإن وحدة الشعب الفلسطيني وقيادته السياسية، هي من ستكون مفتاح الحلول من منطلق مصالح شعبنا العليا. وعليه، فإننا نعود إلى ضرورة إجماعنا على تفويض سياسي لشخصية قادرة، لعلها تنقذنا من الوصاية أو تخفيفها الى الحد الأدنى. إن ضمنا الوحدة نضمن التفاف شعبنا حول خياراتنا، ووقتها سنسير في العملية السياسية معا لأول مرة فلسطينيا. أما عربيا، فسيكون لمبادرة السلام العربية معنى، تعاد لها الحياة من جديد.

حتى تظل الحركة الوطنية حيّة، لا بد لنا من فعل حتى لا تقول دولة الاحتلال كما قالت العجوز. فإن فعلت فليس أمام شباط المهان إلا آذار شقيقه وليس فقط ابن عمه!

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.