
العبرة لمن يريد أن يعتبر
التاريخ لا يعيد نفسه إلا عند الذين لا يتعلمون من عِبره.
***
المفاجأة في الكشف عن المفاوضات السرية الدائرة بين الإدارة الأميركية وحركة «حماس»، أنها فاجأت أوساطاً فلسطينية كان يجب ألا يصيبها الاندهاش من وجود مثل هذه القناة التي كانت متوقعة، ليس فقط لأن السياسة الأميركية تقوم على البراغماتية التي تستهدف تحقيق المنفعة بالطريقة الأيسر، بل لأن هذه الأوساط كانت قد خبرت تجارب سابقة في قنوات المفاوضات السرية مع إدارات أميركية سابقة، وأيضاً في قناة أوسلو الشهيرة.
من المفيد الانطلاق من تقديم الملاحظة التالية: أينما كانت هناك مفاوضات سياسية معلنة لحل صراع شائك، من المُجدي التفتيش على قناة التفاوض السرية، لأن هناك دائماً قناة، إن لم يكن قنوات سرية، يجري فيها، بهدوء ورويّة، جلّ ولبّ التفاوض الفعّال بين الأطراف الرئيسية. فلكون المفاوضات المعلنة مكشوفة ومُتابَعة باهتمام من وسائل الإعلام والرأي العام، فإن أطراف التفاوض تتعرض للضغط، وتنحو بالعادة نحو التصلب والتشدد في مطالبها، ما يؤدي إلى فقدان المرونة الضرورية لإنجاح المفاوضات. أما المفاوضات السرية التي تحدث بعيداً عن الأضواء والمتابعة والمراقبة، فإنها تتيح للأطراف تخطي الضغوط التي تتعرض لها في المفاوضات المكشوفة، وتفتح لها المجال لسبر غور النوايا الحقيقية لبعضها، وتسمح لها التداول بأريحية أكبر في حيثيات مطالبها المتبادلة، وتفتح لها مساحة أوسع للأخذ والعطاء وتقديم التنازلات المتبادلة. إن قناة المفاوضات السرية هي التي يُعوّل عليها في أغلب الأحيان للتوصل لاتفاق. أما المفاوضات المعلنة، فما هي سوى الإطار الذي يمنح المفاوضات الحقيقية، السرية، الغطاء اللازم للسريان دونما انتباه.
***
من المعلوم أن الهدف المعلن لكلا الطرفين، الإسرائيلي والأميركي، إضافة إلى أطراف أخرى، لإنهاء الحرب الطاحنة على قطاع غزة، يتلخص بإنهاء وجود «حماس» كحركة مقاومة مسلحة لإسرائيل، وإنهاء سيطرتها على قطاع غزة. ولكن من الواضح أن القوة التدميرية الهائلة التي استخدمتها إسرائيل حتى الآن على القطاع لم تؤد الغرض المطلوب. فمع أنها تمكنت من إضعاف الحركة عسكرياً، إلا أنها لم تتمكن من القضاء عليها كحركة مقاومة، ولم تستطع أن تنهي سيطرتها الفعلية على غزة. فقد بقيت «حماس» موجودة، وتعمل على ترميم كينونتها، وما زالت، بعد كل ما جرى، هي القوة الداخلية الوحيدة المسيطرة في القطاع، وتتمتع بـ»القدرة التعطيلية» لأي ترتيبات مستقبلية لإدارته، إن لم تتحصّل على إشراكها بها، أو على الأقل موافقتها عليها. ليس هذا وحسب، بل إن استئناف الحرب المتوقفة مرحلياً، بنفس وتيرتها وحتى بوتيرة أعلى، لا يَعِدُ بأكثر من إلحاق المزيد من التدمير والمعاناة على المدنيين الغزيين، ولا يضمن تحقيق الهدف المنشود، بل سيؤدي إلى تحويل الحرب إلى معركة استنزاف مفتوحة مع احتلال إسرائيلي متجدد وطويل الأمد. ومع أن ذلك الوضع لا يضير اليمين المتطرف الحاكم حالياً في إسرائيل، بل يصبّ في تحقيق هدفه الداعي إلى استعادة الاستيطان في القطاع، فإن معاودة الحرب لا تخدم هدف ترامب الساعي لفرض استقرار بعيد المدى في منطقة الشرق الأوسط، يتيح له المجال للتركيز على قضايا أكثر مركزية وإلحاحية لتحقيق مشروعه باستعادة مكانة «أميركا أولاً» في العالم.
***
إذا لم تتمكن الحرب من التخلص من حركة «حماس»، فقد بقيت طريقتان تقوم الإدارة الأميركية بتوظيفهما، بشكل متداخل، لتحقيق الهدف:
تدعو الطريقة الأولى إلى إخراج حركة «حماس» بشكل تام من المشهد السياسي الفلسطيني المستقبلي، عبر إقصائها الكامل عن العمل في الساحة الفلسطينية، وخاصة في مركز ارتكازها الحالي المتمثل في قطاع غزة. ولتحقيق ما عجزت الحرب عن تحقيقه، أعلن ترامب ضرورة إخلاء القطاع من كامل أهله، وتفريغه بطردهم إلى الخارج دون رجعة، بحجة أنه أصبح منطقة غير مؤهلة وقابلة لحياة البشر. تحت هذه الذريعة الواهية، استخلص ترامب أن التخلص من حركة «حماس» وإنهاء حكمها للقطاع يتطلب ألا يبقى وجود فلسطيني بالكامل والمطلق فيه. فهذه هي الطريقة الوحيدة المضمونة للتخلص من جميع عناصر الحركة، إذ إن بقاء فلسطيني واحد في غزة، قد يؤدي إلى بقاء عنصر من عناصرها، فتعود مع الوقت لبناء ذاتها.
يجدر الاعتراف أن استنتاج ترامب كان صحيحاً، فإنهاء وجود «حماس» في الساحة الفلسطينية يتطلب إغلاق هذه الساحة بالكامل. هل كان ترامب جاداً في طرحه لهذه الطريقة؟ وهل كان على دراية باستحالة قبولها من مختلف الأطراف الفلسطينية والإقليمية والدولية؟ بصرف النظر عن نواياه ورؤياه، فقد حقق ترامب الغرض من هذا الطرح، وهو ممارسة أقصى درجات الضغط على الأطراف المقابلة، وإرباكها. إنه تكتيك تفاوضي ماهر أن ترفع سقف مطالبتك إلى أعلى من أقصى سقف كان يمكن تصوّره من الأطراف المقابلة، فتضعها مباشرة في موقف الدفاع، كي تستخلص منها أعلى قيمة تنازل ممكنة. ولكي يكتمل المشهد، ويحصل التنازل المطلوب، فقد تلقفت حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة مشروع ترامب لإقصاء «حماس» بطرد الفلسطينيين الشامل من القطاع بكثير من التأييد، فهو أفضل خيار ممكن لتحقيق هدف تفريغ القطاع واستعادة الاستيلاء عليه. وبالرخصة التي منحها ترامب لفكرة طرد الفلسطينيين من وطنهم، بدأت هذه الحكومة باتخاذ الإجراءات ووضع التدابير لتحويل هذه الفكرة المجنونة إلى واقع لطالما تاقت له. وما التضييق على استمرار عيش الغزيين، ومنع إدخال المساعدات، ورفض الخطة العربية لإعادة الإعمار، إلا أجزاء من سياسة منهجية لتحويل فكرة الطرد إلى واقع، تحت مُسمّى مغرض هو «الهجرة الطوعية».
أما الطريقة الثانية فهي تشبه الأولى براديكالية طرحها، ولكنها تذهب بالاتجاه المعاكس، وهو إدخال حركة «حماس» في المشهد السياسي الفلسطيني المستقبلي، وذلك باحتوائها واستيعابها داخل الساحة السياسية الفلسطينية، عوضاً عن إقصائها منها. قد يكون هذا الخيار هو المفضل بالنسبة للإدارة الأميركية، بعد تحذيرات من أن إقصاء الحركة من المشهد السياسي الفلسطيني قد تكون له ارتدادات غير مُرحب بها من دول «رخوة» عديدة في الإقليم، ما يعني اضطراب المنطقة، بدلاً من استقرارها. كما وأن متطلبات الاحتواء والاستيعاب ستتطلب منها القيام بتعديلات جوهرية على رؤيتها وبرنامجها وطرائق عملها، ما يعني انتهاج علاقة جديدة مع إسرائيل، وهو ما يعني أن مقاربة الاحتواء تحقق الهدف الإستراتيجي المطلوب بصورة أفضل وأسرع وأقل عناء وتكلفة من الإقصاء.
تحت بند بحث مسألة إطلاق سراح رهائن إسرائيليين – أميركيين محتجزين في غزة، فتحت الإدارة الأميركية حواراً مباشراً مع حركة «حماس». وإن كان هناك من يُمنّي النفس ويعتبر أن هذا الحوار مجرد مباحثات مقصورة ومحددة بمسألة عينية محصورة، فهو مخطئ تماماً. فعلى الأغلب أن يشمل هذا الحوار على قضايا أعمق من ذلك بكثير، وفي صلبها سيكون موضوع استيعاب الحركة في المشهد السياسي الفلسطيني المستقبلي، بأن تتحوُّل «حماس» إلى العمل السياسي بشكل كامل، وتغلق الباب على نشاطها العسكري.
***
هناك من يراهن على أن إدارة ترامب لا يمكن أن تعقد صفقة مع حركة «حماس»، ولكن إن تحقق لها المراد فلم لا؟ يجب على هؤلاء أن يسألوا أنفسهم: ما الأفضل لهذه الإدارة، إتّباع الطريقة الأولى التي لن تُقلع ولن تنجح، أم التوصل للهدف المبتغى من خلال الطريقة الثانية؟ يجب تذكُّر ما قاله شمعون بيريس في السابق بأن أفضل طريقة لإدارة الصراع هي باستجلاب منظمة التحرير إلى الداخل، عوضاً عن إبقائها في الخارج. قد يكون الدور قد حلّ الآن على حركة «حماس».
كما وهناك من يراهن، بالمقابل، على أن حركة «حماس» لا يمكن أن تذهب بالاتجاه المعاكس لموقفها الحالي، وهو استمرار تمسكها بخيار المقاومة. ولكن على هؤلاء الانتباه إلى أن حركة «حماس» هي حركة سياسية، وأن هدف الحركات السياسية هو ضمان البقاء، والقيام بكل ما يلزم من أجل الاستمرار. وكما هو معلوم، تضم حركة «حماس» تياراً براغماتياً قوياً، كان قادراً على القيام بتحولات في رؤيتها، وإجراء مواءمات في برنامجها، كانت ضرورية لعبور مفاصل صعبة سابقة. كما ويجدر الانتباه أن الحركة تواجه بعد مواجهة هذه الحرب المريرة وضعاً مستقبلياً صعباً لا بدّ وأن تأخذ تداعياته في الحسبان، فهي فقدت الكثير من قدراتها الذاتية، ومن فاعلية حلفائها في الساحة الإقليمية، وتتعرض لوابل من عوامل الضغط التي تتوعدها باستمرار الملاحقة حتى تحقيق الانكفاء، أو تعديل المسار. لقد وقعت منظمة التحرير تحت مسلسل من الضغوط المتتالية بعد خروجها من لبنان في أعقاب الغزو الإسرائيلي العام 1982، وهو ما أوصلها في النهاية إلى اتفاق أوسلو مع إسرائيل. ما يحدث حالياً مع حركة «حماس» هو أمر مشابه، ولكن مع فارق أن الوصول إلى نفس النتيجة لن يتطلب فترة تمتد إلى مدة عقد من الزمن. فظروف الإقليم والعالم تغيرت بالنسبة للفلسطينيين إلى الأسوأ، ولم يعد هناك الكثير من المجال للمناورة. فماذا سيكون بيد حركة «حماس» من أوراق تأثير تحافظ بها على وجودها، بعد أن يتم، بطريقة أو بأخرى، استنفاد ما لديها من مخزون الرهائن؟!
تفتح المفاوضات السرية الجارية مع الإدارة الأميركية منفذاً قد يكون الأهم لمستقبل حركة «حماس». ومن نافل القول إن عملية التحوُّل لأي جهة سياسية تتطلب تقديم حوافز تضمن لها استمرارية البقاء. وقد يكون دفع جهات إقليمية ودولية حالياً، على رأسها أميركا، باتجاه ضرورة إجراء انتخابات فلسطينية خلال فترة وجيزة قادمة، وإبداء إشارات الموافقة الفلسطينية على ذلك، هو المدخل المستحدث والإشارة الموعودة لاستيعاب حركة «حماس» ليس فقط كطرف في مشهد العمل السياسي الفلسطيني المستقبلي، بل وقد يكون فتح المجال أمامها للسيطرة عليه أيضاً. كل ذلك مرهون طبعاً بتقديم المقابل المطلوب منها.
***
أصبحت الخيارات تضيق أمام جميع الأطراف الفلسطينية، ومعها فإن المسارات آخذة في الاتضاح بشكل أجلى. ولكن المفارقة تبقى أن الأطراف الفلسطينية، عوضاً عن استخلاص العبر ورأب الصدع الداخلي لمواجهة أنجع لما تواجهه القضية الفلسطينية من أخطار محدقة، لا تزال تصرّ على مناكفة بعضها، والذهاب إلى «المقصلة» بالتتابع، مع تهليل حار من المنتظرين!

الأردن.. لماذا محاولات الإطاحة بوزير الخارجية؟

ثنائيـة الكتابـة والـحيـاة محمـود شقيـر نموذجاً

نتنياهو صاعق الحرب في الشرق الأوسط

"الوحدة حياة والفرقة موت"

الصمود والإعمار و الوهم في ارضاء اسرائيل

عضوية مجالس الإدارة: تكليف أم تشريف؟

في مواجهة العنف: حين تجتمع حيويّة الشباب مع تجربة الكبار
