
ثنائيـة الكتابـة والـحيـاة محمـود شقيـر نموذجاً
طيلة أسبوع كامل، وأنا غارق في أزمنة الأستاذ محمود شقير، أحب هذا القاص المهم، الذي شكلت تجربته علامة فارقة في القصة الفلسطينية، على يديه نمت ونهضت تجارب قصصية كثيرة في العالم العربي، شخصيا، أخذت منه الكثير من التقنيات، وسأكون قويا حين أعترف أنني سرقت في مجموعاتي الأولى بعضا من أجوائه، كما اعترف بعض أصدقائي من الساردين بأنهم نهبوا لغة شقير المحيرة اللذيذة، المقيمة في بيت خاص بين الشعر والسرد، وكانت مجموعته الأولى مصدر نهب لجيل فلسطيني كامل، (خبز الآخرين)، أتذكر هوسنا بفضائها وشخوصها، ونقاشاتنا من خلالها حول علاقة الفن بالأم الفلسطينية الاجتماعية، وكان حزننا كبيرا على مصائر أبطالها، ولن أنسى مجموعة (طقوس المرأة الشقية) التي هزت الوسط السردي الفلسطيني، بأسلوبها اللغوي وشذريتها، ومضامينها. هذه المجموعة هي التي حفزتني على كتابة بعض القصص القصيرة جدا، لكني لم أتقنها وعدت إلى القصيرة، مكللا بفشل مفيد وحب كبير للأستاذ.
العام 2022، صدر للقاص شقير عن دار نوفل في بيروت سيرة ذاتية مهمة جدا: (تلك الأزمنة)، سيل من الذكريات مصوغة بطريقة سردية ممتعة، المدن والأصدقاء والحياة بكليتها، محمود شقير ليس قاصا مبدعا فقط، هو يمتلك شخصية إنسانية ساحرة، وغريبة، سأتحدث عنها بالتفصيل. في مرحلة خواء الثقافة الفلسطينية، (والـمخترة) الثقافية واستخدام الـمناصب والـمواقع الحزبية والعائلية والـمؤسساتية والشللية لإقصاء الآخرين واغتصاب اسم وروح الثقافة، زمن تغيير الوجوه، والاتجاهات، عبادة الذات الـمبدعة، منهج تحطيم إنجازات الآخرين، الدس بينهم، العيش على خلافاتهم، التعامل مع الأدباء وكأنهم قطعان من الخرفان، التوسل للنقاد من أجل الكتابة عن الأعمال الأدبية، زمن النصوص السريعة الـمليئة بالدهون والشحوم في مطاعم ومطابخ (النت)!
تزداد صورة القاص محمود شقير لمعانا ورقيا ومصداقية وشفافية، هذا الرجل - الأمل، لن يتجادل معي أحد حول نزاهته وصدقه في الكتابة كما صدقه في الحياة، الـمثقف في فلسطين لا يحب أن يسمع مديحا لأحد من زملائه إلاّ إذا كان هو نفسه هذا الـممدوح، لكنّ، هناك إجماعا بين مثقفي فلسطين على استحقاق هذا الـمبدع الـمديحَ دائما، لماذا إذاً، نجا هذا القاص الهادئ من دوامات الحسد والنميمة والتشويه؟ بإمكان الحديث عن شقير أن يصبح ذريعةً للحديث عن أمراض الحياة الثقافية الفلسطينية وتشوهاتها، كما يصلح الحديث عن هذه الأمراض أن يكون ذريعةً للحديث عن محمود الإنسان والـمبدع، فكلما رأيت سلوكا مريضا لمثقف فلسطيني؛ أتذكر فورا محمود شقير، وأقول: يا ألله، كم هو واحتنا هذا الرجل!، الحديث لا يدور هنا عن شخص عاديّ، بل عن ظاهرة ضائعة متمثلة في سلوك وروح شخص يعيش بيننا، ولكننا، غالبا، لا ننتبه إليه؛ لأننا مشغولون بسبّ الآخرين، والتّرويج لـما نكتب، لـماذا أنا من الـمتحمسين لنظرية تجنّب الاحتكاك بالأدباء والفنانين الـمبدعين الفلسطينيين؟، الذين نحب كتاباتهم، تجنّب رؤيتهم والحديث معهم؛ لأن مجرد رؤيتهم والاستماع إلى نبرات أصواتهم، يسقطان منّا الإحساس بملائكيتهم، يكسران أبعاد الكريستالة اللامعة التي ربتها فينا نصوصهم الـمدهشة. تذكروا كيف نشعر حين نتعرّف عن قرب إلى بعض ممّن نحب من الـمبدعين: لا، لا، ليس هذا من أقرأ له، هناك خطأ ما!!. لكن ذلك ليس خطأ هؤلاء الأدباء؛ إنها طبيعة الأشياء، سنتها، لا إدانة هنا لهم، بل توصيف للحالة، الاستثناء هو حالات غريبة معذبة قدّر لها أن تلتحم فيها نصوصهم بحيواتهم كما تلتحم شقتا البرتقالة قبل شقها إلى نصفين، مبدعون كثر، روائيون وروائيات، رسامون ورسامات، شعراء وشاعرات، مخرجون ومخرجات، أحببت شخصيا أعمالهم، عشتها، تعلـمت منها، بنيت عليها كما تبنى كل نصوص العالـم على ما سبقها من نصوص، بعضها شكّل مفارق ومفاصل في تجربتي القصصية، وربى داخلي ذلك الحيّز الـمقدّس الغامض الحلو من النقاء والألوهة، وذوبان الزمن، واتحاد الأمكنة، وبريق جوهر التاريخ الإبداعي البشري وخلاصاته، لكن بمجرّد رؤيتهم انتهى كل شيء، كل شيء، بالطبع ماعدا قلة - أبرزهم محمود شقير - متناثرين هنا وهناك غير قادرين على التـأثير في الوضع الثقافي، حين نقرأ نصوص محمود القصصية نرى وجهه ونسمع صوته، وحين نراه ونسمع صوته نقرأ نصوصه، أعترف بأن هذا النوع من الأدباء يسبب لي الارتباك، والألـم، الارتباك؛ لأنني أكون في حضرة الحيز الـمقدس نفسه، سائلا إلى الخارج بكل خلوده وعمقه وحرارته وطزاجته؛ فمن الخارق وغير الطبيعي أن تتمرأى النصوص واللوحات والقصائد والروايات والأغاني على شكل إنسان يتحرك ويبتسم ويشرب أمامنا القهوة، ذلك يشبه أمنية بعيدة الـمنال، والألـم؛ لأن عليّ أن أحصل على هذا الكائن ليبقى بجانبي دوما يزودني بالإلهام ويعطيني الأمل. إن مفارقته تشبه مفارقة قدرة خارقة حصلنا على سرها. وفيا ومخلصا ظل محمود شقير لفن القصة القصيرة، الـمعزولة عالـميا والنابضة في بطن حوت، عزلته الرائعة في القدس الـمعزولة هي الأخرى زادت حضوره داخلي وعند من يعرفه نورا على نور. لـم ير محمود العالـم بعيني الحزب الضيقة الواثقة والـمقولبة، بل رآه بعيني الفن الـمتشككة والـمعقدة والعميقة الفاحصة والشمولية، فترى أن الثيمة الأساسية في كل أعماله هي التقاط الحزن البشري والتضامن مع الـمتألـمين والأرواح الـمكسورة، بصرف النظر أكانوا عمالا أم فقراء أم أغنياء أم ملوكا، لـم تجبره المؤسسة التي عمل فيها لسنوات على أن يكون جزءا من طبيعتها التي تشجع على الكسل والتآمر والنميمة، عجزت عن أن تصنع منه متلونا وشتاما ومقاولا كما تصنع عادة هذه المؤسسات في العالـم العربي من موظفيها. من أجل كل ذلك، نحن نحب هذه الظاهرة، هذا الرجل، خصوصا في مرحلة هذه الصحراء المسماة ثقافة.

الأردن.. لماذا محاولات الإطاحة بوزير الخارجية؟

العبرة لمن يريد أن يعتبر

نتنياهو صاعق الحرب في الشرق الأوسط

"الوحدة حياة والفرقة موت"

الصمود والإعمار و الوهم في ارضاء اسرائيل

عضوية مجالس الإدارة: تكليف أم تشريف؟

في مواجهة العنف: حين تجتمع حيويّة الشباب مع تجربة الكبار
