
لماذا أحب غزة؟
سألت نفسي مرات لا تعد ولا تحصى السؤال نفسه: لماذا أحب غزة؟ والإجابة في كل مرة تختلف، تخيل أن تجد ملايين الإجابات لسؤال واحد وكل الإجابات صحيحة ولا يمكن لأحد أن يخبرك أن إجابتك خاطئة، بل إن إحدى إجاباتك سوف تجعله يسرح بخياله ويضع نفسه مكانك ويومئ برأسه مؤكداً على صدقها مثل أن أرد على من يسألني لماذا تحبين غزة؟
أنني أحبها لأن فيها ذكرياتي مع أبي وأمي وكلما قتلني الشوق والحنين لأيام الطفولة والصبا قبل أن أتزوج وأترك حضنهما فأنا أذهب إلى ذكرياتي معهما وأكتشف أن في كل شارع وزقاق واتجاه هناك ذكريات تجرف روحي وقلبي وتشعرني بالانجذاب والارتباط، وتمسح على قلبي بأمان وطمأنينة لأن القرب مع من تحب هو الأمان، وكنت أشعر بالأمان حين أسير في شوارع مدينتي الأم وهي مدينة خان يونس وأكتشف أنني أعرفها مثلما أعرف باطن كف يدي، وأن عمري وأيامي اللذين قضيتهما وأنا أرتع بين حدودها الأربعة قد حفرت في روحي ولا يمكن أن تغادرني هذه المدينة إلا حين تغادر روحي هذا الجسد الذي أصبح بعيداً عن المدينة ولكنه يسمع صوتها كل لحظة وهي تناديه.
هنا في زحمة مدينة القاهرة وحيث استقر بي الترحال أشعر بغربة لا متناهية ومؤلمة وقد أكد لي أولادي أنني مصابة بالاكتئاب لأني أرفض الخروج من باب البيت الصغير الذي استأجرته، وغالباً ما أقضي معظم وقتي في غرفتي، أسرح حيناً وأنظر من شباكها حيناً، وأكتب لأبث الشوق لتلك المدينة الغائبة وأغرق في مكالمات ومراسلات مع الأهل هناك ومع الجيران والأحبة فأجدني أعرف كل صغيرة وكبيرة من حياتهم فأصرخ غاضبة بجارتي الشابة حين تخبرني كيف اشتعلت النيران بطرف الخيمة، وأقول لها عبر مكالمة صوتية من خلال تطبيق " الواتس أب": يا بنتي مية مرة أخبرتك لا تشعلي نار الموقد في الخيمة، اشعليها في الساحة الضيقة التي أقام فيها زوجك حماماً بدائياً وتضعين في زاوية منها أدوات للطبخ.
هنا في زحمة مدينة القاهرة قد أخرج لماماً وعلى فترات متقطعة ولكن الغربة تلفني، وأكاد أصرخ أن هذه المدينة ليست لي ولا تشبهني حتى ومظاهر الاحتفال والبهجة بشهر رمضان تملأ عينيك وسمعك، ولكنك تشتاق إلى مظاهر احتفال مدينتك الصغيرة، إلى رائحة الفلافل والفول من المطعم المجاور لبيتك والتي تشمها وقت السحور فتغزو أنفك وتعرف أن موعد السحور قد حان، وحين تسمع صاحب المطعم يغلق أبوابه ويملأ صرير الباب الصدئ أذنيك في جوف الليل تعرف أنه لم يتبقَ على انطلاق أذان الفجر سوى دقائق.
هنا في زحمة مدينة القاهرة أنت إنسان غريب مثل شجرة كبيرة اقتلعت من جذورها وأصبحت فكرة إعادة زراعتها في أرض أخرى عبارة عن مجازفة، وتكتشف أن الطمي قد علق بالجذور وتتوقع أن ذلك سوف يساعدها على البقاء في تربة أخرى ولكن الشجرة التي اقتلعت من غزة وأصبحت في تربة أخرى تجاهد أن تبقى وهي تمتص الماء بصعوبة من جذورها التي علق فيها طين الأرض.
في غزة كان لي كل شيء، السماء لي والأرض لي والأحلام لي والذكريات والأحبة والجيران الطيبون ورفاق أبي وأصحاب المحال الصغيرة في سوق" الحبوب" والذين يعرفونني لأنني طالما مررت بهم منذ طفولتي وأنا أمسك بيد جدي ثم أبي ثم كبرت وصرت أمر في هذا السوق الضيق وحدي أتنسم روائح الأحبة وأعد البلاطات الأثرية في أرضيته، وقد كنت أفعل ذلك حين كنت طفلة وأمارس لعبة "الحجلة" فوقها فيما يتشاغل جدي بشراء سلعة أو بإلقاء تحية وحوار قصير مع أحد أصحاب المحال، وحين كبرت كنت أوسع خطوتي فوق هذه البلاطات المزركشة لكي أقفز فوق كل واحدة بخطوة واحدة وأشعر بسعادة غامرة حين أفعل ذلك.
لماذا حب غزة؟ هناك إجابة جديدة سوف أضيفها لملايين الإجابات وهي أنني أحبها لأن رمضان كان يمر بها وعليها وهي تتلألأ وتضيء وتنعش قلبي وروحي بعبق الذكريات والحنين ولمة أولادي وأحبتي حولي، واليوم أنا أحبها ولن أتوقف عن حبها لأن الأمل لا يزال في قلبي أنني سوف أعود إليها وأجد إجابة جديدة للسؤال نفسه: لماذا أحب غزة؟.

"حين يكون اليقين طوق النجاة، وحين تكون الأخلاق أعلى الشهادات"

روسيا وأمريكا: صراع القوى في الشرق الأوسط وتداعياته على المستقبل

واقع جديد يتشكل بعد ٧ أكتوبر

إن كنتم غير قادرين عودوا إلى الشعب

بين مفاوضات العزة ومفاوضات الذل

رحيل الطفل الكبير

قمم رفع عتب وقرارات مع وقف التنفيذ
