
إنهم يقتلوننا بالخوف
كتب احد الأشخاص من غزة في اليوم الثاني لعودة العدوان واستمرار التصعيد وبعد انتهاء الهدنة دون التوصل لاتفاق تمديد آخر، مستغربا من مشاعره، حيث يقول، انه قد شعر بالخوف حين عادت الحرب للمرة الثانية اكثر من شعوره بالخوف في المرة الأولى، وانه يستغرب مشاعره تلك التي كان يعتقد أنه قد لا يشعر بها لأنه اعتاد الحرب وان أجواء الموت والدمار والدم لم تتوقف إلا فترة قصيرة هي أيام الهدنة.
هذا الشخص مثله مثل أي شخص كان يعتقد في البداية وحين اندلعت الحرب في السابع من أكتوبر أنها لن تستمر إلا أياما معدودة، ولو وضعنا أقسى الاحتمالات وأبعدها فسوف تستمر لشهر أو شهر ونصف ولكنها طالت لتمتد إلى عام وربع العام تقريبا، وقد استنفدت طيلة هذه المدة كل شيء من أرواحنا وفقدنا وخسائرنا، ولم يعد احد لديه طاقة لأن يفعل شيئا جديدا تعبيرا عن رفضه أو خوفه، مثل السيارة التي كانت تسير بأقصى سرعتها في طريق غير معبد بل كان طريقها رمليا تغوص فيه عجلاتها وحتى إذا ما قاربت أن تصل إلى نهايته نفد الوقود فلم يعد هناك طاقة للتقدم ولم يعد أمام السائق سوى أن يمشي في الطريق الوعر.
انتهت الجولة الأولى المريرة والطويلة من الحرب أو المقتلة، وخرج المواطن الغزي متعبا ومرهقا ومستنزفا وهو لا يعرف كم مرة نزح من بيته وكم بيتا تنقل منه وكم خيمة عرفته وعرفها، أما وجعه وألمه ودموعه فهذه أشياء لا توصف ولا تقدر، ولذلك فالجولة الأولى قضت على كل شيء حتى الدموع لم يعد يجدها، لأن ما حدث قد فاق كل تصور، ولأنه في كل لحظة كان لديه أمل أن كل شيء سوف يتوقف ولكن ذلك لم يحدث.
لماذا نخاف، اليوم، اكثر؟ لماذا يقتلنا الخوف اكثر؟ والإجابة أن الحرب قد عادت ولم يعد لدينا أدنى احتمال أنها سوف تتوقف قريبا، فقد كذبنا على انفسنا كثيرا في المرة الأولى، ولأننا لم تعد لدينا خطط بديلة، لأننا استنفدنا كل الخطط. هذا ما حدث معي، في الأيام الأولى من الحرب لم أضع احتمالا لو واهيا أن أغادر مدينة غزة صوب جنوبها، رغم أن مدينة خان يونس هي مسقط رأسي، ولكني تنقلت من مكان إلى مكان اكثر من مرة داخل المدينة، كان لدي أمل بأن الحرب سوف تتوقف وإنني سأعود إلى أطلال بيتي، ولكن بمجرد أن صدرت أوامر الإخلاء التي طالبتنا في الجمعة الأولى من الحرب بالتوجه صوب جنوب وادي غزة قلت لأولادي: هذه المرة ليست ككل مرة، هذه الحرب سوف تطول، كما أضمرت في نفسي إحساسا هو أنني لن أعود إلى مدينة غزة ثانية، وهذا ما حدث، وغرقت في المدن بين خان يونس ورفح حتى ابتلعتني مدينة القاهرة منذ سنة.
اليوم، يشعر الجميع بالخوف والخوف يقتل لأنه يصور لك أشياء مرعبة لديك خبرات سابقة عنها، فأنت قد نجوت خلال عام وربع من المقتلة ومن الإبادة الممنهجة، وشهدت الإصرار على تحويل غزة بكل شبر فيها إلى بيئة طاردة للحياة بحيث تلتفت حولك وتجد أن عجلة الزمن تدور بك فتلقيك إلى مائة عام ماضية، فلا أدنى مقومات للحياة حولك. تكتشف انك شبه ميت وشبه حي ولا تعرف إلا أن الأيام تمضي وانت تحاول أن تتدبر اقل القليل بطعام يسير وماء غير نظيف وقماش خيمة و/أو بقايا بيت قد يسقط فوق رأسك في أي لحظة.
اليوم، انت خائف لأنك متعب ولا احد يشعر بتعبك، متعب بروحك قبل جسدك، وقد خبرت تجارب وعشت أحداثا محزنة ومؤلمة بالفقد والضياع والتشتت والترحال والتشرد، وانت، اليوم، خائف لأن خيالك لا يسعفك لكي تعرف ما هو أقسى وافظع، وكنت لشد سذاجتك تعتقد أن الجولة الأولى قد عشت فيها أقسى ما قد يعيشه بشر على وجه الأرض، ولكن الحرب عادت والخوف يقتلك وانت تراها تعود مكشرة عن أنيابها قد استراحت قليلا حتى توحشت اكثر وتعطشت لدمك الساخن أكثر.

صمتوا دهراً و نطقوا كفرا

هذا هو الواقع، فماذا نحن فاعلون؟

ترامب وزبانيته من المهاجرين

كرّر كلمة "النصر" 654 مرّة وحقّقه على الجبهات الأخرى وعَلِق في غزّة...

مذبحة غزة لن تنقذ إسرائيل من نفسها

الاحتجاجات في غزة: بين صرخة المعاناة وحسابات المرحلة

رحيل الحوراني، زقطان و"الحوت": صمت لا يُشبههم
