
مكتوب إلى وليد دقّة
إلى أخي وحبيبي وليد.
لا أعرف يا صاحبي أين أنت.. هل متّ فعلاً؟ في الموت تكمن نهاية ما، أليس كذلك؟... لكنْ في موتك المفترض لا توجدُ نهاية، لا حرفياً ولا مجازاً، بل غيابٌ ألفناه خلال سنوات السجن والعزل، فلم يعُد واضحاً الخطّ الفاصل بين غيابٍ وغياب، وبين موتٍ وغياب.
رغم مرور سنةٍ على إعلان إدارة السّجون إنك توفيت، لا أشعر يا وليد أنك متّ، وهذا ما أنعمَه عليّ القتلة بقرارهم حبس جسدك ومنع دفنك. ولهذا، لا أستوعب موتك، ولا أتقبّله، والدليل أنني أكتب لك. وكما تعرف جيّداً، أنا لا أكتب ولا أخاطب من انتقلوا إلى الجانب الآخر، أتخيّلك مبتسماً ابتسامتك الشقيّة المخاتلة، كأنك ستبدأ في سخريتك القارصة "تنكش عليّ". إنني أكسر القاعدة معك، وأتجاوز نهايات الموت بما تتيحه لي تلك المنطقة السرمدية بين الموت والغياب. أين أنتَ يا صاحبي؟ أين أنت؟ لا أنت ميّت، فأبكيك وأرثيك، ولا أنت غائب أنتظر هاتفك الفُجائيّ، وصوتك الآتي من أعماق المعاناة والمرض.
كانت سناء تقول جملتها الواثقة: "لن يتركنا وليد... وما بيعملها أبو ميلاد"، فهل فعلتَها فعلاً؟ هل تعرف أنك مضيت من غير أن أُعاتبك عتاباً مرّاً، لماذا وافقت على تمديد حكمك سنتَين إضافيَّتَين، لماذا؟ لماذا؟... عندما افترقنا في سجن رامون في القسم رقم "7"، في ديسمبر/ كانون الأول 2017، رجوْتك، بل واستحلفتك ألّا ترضى بما تعرضه عليك النيابة، فمن غير المعقول أن يكون حُكمك مثل حكمي، وأنا في حيثيّات القضية كنتُ المتّهم الرئيس.
كنتُ أخشى لمعرفتي الحقّة بك، أنّك ستقبل خوفاً من أذيّة آخرين تريد حمايتهم، وأنّك مستعدّ كما دائماً لأنْ تُضحّي، ولأنْ تتحمّل وحدك المسؤولية، ولكن هذه المرّة ضحّيت بآخر رمق من الحرية، وحرمت نفسك وحرمت ميلاد وسناء من أن تحيوا عائلةً، ولو ليوم أو لشهر أو لسنة، هل هذه مشيئة الأقدار أن تستكمل مركّبات بناء الأسطورة كافّة؟ ألم تحتفظ ببعض الزيت يا صديقي لينقذنا من هذه الأقدار، أو على الأقلّ ليلطّفها بعض الشيء.
أيُّها الحبيب.. لا أملك ما يربطني بك متجاوزاً الموت المشكوك فيه أو الغياب الحتمي، غير ذلك التسجيل الصوتي الذي أرسلتَه إليّ مع سناء من سجن عسقلان، الذي ضمّنتَه تقديمك لكتابي "أوراق السجن"، استمعتُ إليه مرّات عدّة منذ إعلان غيابك، وقد عدت للاستماع إليه خلال كتابتي هذه الكلمات، فأصغيتُ إلى نبرات صوتك المميّز المشوب بآثار التدخين، وأدركتُ كم أنت حيّ، وكم أنا مشتاق لك يا صديقي.
أغبط نفسي على كلماتك المبالغة في تقديري، وعلى صداقتنا التي أوصلتني إلى السّجن، وأن نعيش سويةً في القسم نفسه في سجن جلبوع عدة أشهر، في مفارقة جعلت منها صفحةً مميّزةً في تغريبة الأسر الفلسطينية، وكم أنا محظوظ لأنني أحتفظ بهذا التسجيل الصوتي لك من سجن عسقلان.
منذ الإعلان عن موتك المفتَرض، انحبست كلّ الكلمات، وحتى الآهات، تجّمدت فخرس القلم، وانكتمت الأوجاع في أعماق النفس، ولم يطلقها من عقالها سوى ما كتبت سناء قبل أيام، أنه كان من المفروض أن يكون ذلك اليوم موعد إطلاق سراحك بعد 39 سنة من الحبس في سجون الاحتلال.
وكان الأصل أن تتحرّر قبل ذلك بسنتَين، وكان عندها عُمْر ميلاد ثلاث سنوات، وكنتَ ستحيا معها ومع سناء والداً وزوجاً فترةً ما، لا نقيسها بمفاهيم الزمن في هذا العالم، وإنما بمفاهيم الزمن في العالم الموازي، الذي كتبتَ عنه في أكثر من مناسبة، والذي تختلط فيه وحدات الوقت، فقد تكون سنة بطول عُمْرٍ بأكمله، وقد تختصر عصارة عُمْرٍ كامل بسنة.
علِمَت سناء أنها حامل من النطفة التي هرّبتها من السجن بعد محاولات عديدة فاشلة، في يوم تحرّري من السجن، في 27 مايو/ أيّار 2019. كانت تلك أجمل هدية، وما كنتُ أحلم أن أحظى بها في يوم استعادة الحرية، أيّ مصادفة هذه، يا صديقي؟ فكّرت أنّ تلك إشارة كونية إلى قرب حصولك أنت أيضاً على تحقيق حلمك بميلاد الموعودة ونيلك حريتك. وقد تحقّقت أعجوبة ولادة ميلاد طفلة النور الأزلي، لكنّ بقيّة الحلم لم تتحقّق.
هل أفشي لك سرّاً ليس بسرٍّ، أيها الحبيب؟... ليلُنا حالكُ السواد، بطيءٌ، ثقيلٌ، ولا فجر قريب نرقبُه. استحضر الآن حالتي النفسية، ومزاجي السوداوي، عندما نقلوني فجأةً من سجن هداريم إلى سجن نفحة، وقد كتبتُ بعدها نصّاً طويلاً "في الطريق إلى نفحة"، كنت أتمثّلك أمامي في خليّة العزل في البوسطة الكريهة، لم أقرأ لك يوماً هذه الكلمات، فقد حُرمنا من الاستمرار في تبادل النصوص، يا أخي الذي لم تلده أمي، اقرأها الآنَ (إنْ استطعت) وأنت في ذاك البرزخ السرمدي:
"في الطريق إلى نفحة/ في بوسطة الذلّ والإذلال/ تنتعش الذاكرة فيشتدُّ/ الجسد وترتعد الأوصال/ تحضرني ملامح رفاقي في السجون التي خلّفتها ورائي/ وتحضرني كلّ الأسماء/ من كلّ أنحاء الوطن/ أبطالاً للحرية يقضون سنوات العمر في الأغلال/ يستمرئون تفاصيل حياة الأسر/ عند الجاني الذي يُتقن تحويلَ البطولة/ إلى مجرّد صراع على البقاء/ يتحوّلون هم رغماً عنهم إلى لُبّ القضية/ بدل القضية ذاتها/ وتصبح حريتهم ذريعةً للهزيمة ومبرّراً للهوان../ في الطريق إلى نفحة في بوسطة الذلّ والإذلال/ تطفو كلّ الأشياء/ تفلت كلّ الأفكار من قيود العقل/ هل سيذهب كلّ هذا هباءً/ هل يضيع الحقّ ويفنى العدل/ ويموت المُطالب وتفنى كلّ الآمال/ وتداس كلّ الأحلام في أقبية السجن/ وزنازين القهر دون حسابٍ دون عقاب؟/ هل ينتصر رهان الثائر أم رهان السجّان؟/ أين الجواب والقضية تشظّت قضايا/ وملح الهزيمة يكوي الجراح/ ويشوّه ملامح الوطن المغتصب من الأعداء/ والمختطف من الزعماء/ رهان الأسير الثائر شعبُه/ رهان الأسير الثائر ذاكرته/ رهانه حقّه في الحياة/ رهان الأسير الثائر ليس رهاناً/ ليس قراراً.. ليس خياراً/ بل هو معنى الوجود ومغزى البقاء".
يا صديقي الغائب الحاضر، أتوسّل بعض السلوى بأنك مضيتَ، ولم تشاهد قتل عشرات الألوف وتدمير قطاع غزّة في الإبادة الجماعية، التي قلّ مثيلها في التاريخ، وأتشبّث ببعض ومضات الرضى لإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في عمليات تبادل، وإنقاذهم من براثن وحوش إرهاب الدولة اليهودية، خاصّة عندما أتعرّف على ملامح بعض رفاق الأسر، وقد تغيّروا كثيراً بسبب التجويع والتعذيب.
وأخيراً نلت حريّتك يا رفيقي، وانتهت معاناتك مع المرض والألم والوجع، ولم تعد هناك زنازين وعزل وبوسطات وتنكيل. أمّا نحن فما زلنا في هذا السجن الكبير الكريه نعدّ العصيَّ (أطنان المتفجرات) التي تهوي على رؤوس أبناء شعبنا في غزّة، مدركين أن طاقتهم في تحمّل القتل والتهجير والتجويع قد نفدت أو تكاد، ولا من مُغيثٍ ولا من نقطة ضوءٍ واحدة تلوح، ومرّة أخرى لا يوجد ما نراهن عليه سوى هذا الشعب، أسطورة البطولة والصمود.
أخي الحبيب، أنا على يقين أنّك كنت تريد أن تعرف أموري الشخصية كلّها، وتتدخّل في تفاصيل التفاصيل حتى تنشغل بها، لكني لا أريد أن أحدّثك عنها الآن، فربّما تدفعني يوماً ما لأكتب لك مرّة أخرى، أو ربّما أكتب إلى ميلاد، للتواصل معك. ألخص لك الوضع ببيت الشعر من قريحة شاعرنا الخالد عبر العصور، الذي تعبنا حتى فكّكنا رموزه سويّةً، حين وجدته مكتوباً بخطّ رديء على قاعدة البرش، الذي أنام تحته في سجن جلبوع، ويبدو أن المتنبي قاله بنوع من الخيبة، وقد تقدّم به العمر: "يظلّ يجيء الذي قد مضى لأن الذي سوف يأتي ذهب".
هذه هي الحال، يا رفيقي وأخي أبو ميلاد، ولا أستطيع أن أعِدك بشيء سوى أنّنا سنحفظ ذكرك ومسيرتك ونورّثها للأجيال.