الأمل في مواجهة الموت
مقالات

الأمل في مواجهة الموت

لاحظتُ ومنذ بداية حرب الإبادة في غزة بما يعني نحو عام ونصف أن معظم من نشروا عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة انهم ينتظرون الموت ويتخيلون طريقة موتهم أنهم قد ماتوا فعلاً، وليس من باب الصدفة أن يحدث ذلك، لكن هناك من سيخرج ليقول إن هذه أقدارهم، وإن كل ما فعلوه انهم قد توقعوا وانتظروا، والحقيقة أيضا ان اليأس حين يتملك من القلوب فهو لا يرى إلا صورة واحدة، فكيف حين يكون الموت حولك بألف صورة وصورة، ورائحة الدم لا تفارق هواء المكان، مع رائحة البارود والدمار.

لا يمكن مثلاً أن تشم رائحة الورد الجوري العابق فوق شجرة عملاقة، وهذه الشجرة تقع وسط حديقة غناء حسنة التنسيق وجيدة الرعاية، لذلك فمن الطبيعي انك بمجرد أن تمر بجوارها حتى يعبق أنفك رائحة الورد، لكن ذلك لن يحدث أبداً وأنت في أتون الموت وفي قلب المطحنة، وحيث تدور رحى الموت في كل لحظة لتضيف أرقاماً جديدة لقائمة لن تبلغ نهايتها إلا حين ينال منك التعب، فهناك آلاف القتلى غير المصابين والجرحى والمرضى والمنهكين، ولو وضعت اسمك بين أسماء القتلى فأنت في قائمة الانتظار، أما لو وضعت اسمك في قائمة المنهكين والمتعبين فأنت ميت مع وقف التنفيذ، أنت ميت ولا تملك سوى أنفاسٍ تخرج وتدخل إلى صدرك الذي برزت عظامه من سوء التغذية.

عن أي أمل يمكنك أن تكتب او تتوقع أو أن تبني وحولك كل شيء يدعوك للموت، وكل شيء يمهد طريقك نحو نهاية مؤلمة، لكن هل من الممكن أن تخدع الموت فتكتب عن الأمل، حتى لو كتبت عن حلم راودك ذات ليلة بعد أن جاهدت كثيراً لكي تنام، وبعد أن استسلمت لتعب جسدك وفيما روحك تتوثب خوفاً، وفيما قلبك يتقافز بين ضلوعك كلما سمعتَ أصوات القصف الجنوني تقترب وتبتعد.

ماذا لو خدعت كل صور الموت وأمسكتَ بهاتفك الذي تربطه بصعوبة بالغة بشبكة الإنترنت، وكتبتَ على جدار زاويتك عبر موقع «فيس بوك» انك تشعر بالأمل، وان كل هذا سوف يمضي وأن أطفالك سوف يستيقظون ذات صباح ليرتدوا الزي المدرسي ويتناولوا فطوراً شهياً قبل ان يلحقوا بباص المدرسة.

ماذا لو خدعتَ الموت وكتبت عن الحياة، ربما ابتعد الموت وغيّر اتجاهه وربما أدار ظهره عن مشهدك المؤثر والمبكي، وانت في الخيمة تجلس على الرمال القاتمة، فيما يحيط بك صغارك الشعث الغبر والذين فقدوا براءتهم وحلاوة أيامهم ولم يعودوا ينتظرون سوى ما يسد رمقهم.

لا تكتب عن الموت، وربما كنت مخطئة حين قرأت طويلاً عن نظريات تتخيل ان توقُّع الشيء سوف يأتي بها سريعاً، فلذلك عليك إلا تتوقع الموت ولا تنتظره، وعليك ان تغمض عينيك عن الأشلاء المعلقة على الشجرة العجوز، وعن بقايا الطفل التي علقت بسور المدرسة المهدم اكثر من نصفه، وعن آثار الدماء المتجمدة على الرصيف المتآكل والتي تخبرك عن مجزرة قد وقعت قبل يوم.

لا تكتب عن الموت وعليك أن تصنع معه خدعة، اُكتب عن الأيام التي ستأتي وينتهي كل هذا، وتستيقظ ذات صباح وقد أزحتَ عن صدرك وقلبك كابوساً مرعباً لا يجوز له أن يغادر غرف النوم والأسرّة الدافئة، وأسرعت إلى الفضاء لتستنشق الهواء النقي وتطالع العصافير من خلال شرفتك وهي تزقزق احتفالاً بنهار جديد مهما كان متعباً ومرهقاً لها، ولكنه في النهاية نهار آمن لن ينتهي إلا باحتمالات قليلة أن هناك شبكة صياد او فخاً تم إخفاؤه بمهارة بيدَي طفل عابث.

عليك ان تكتب عن الأمل لو قليلاً وتتناسى كيف حدث كل ذلك ذات يوم، وكيف انقلبت حياتك البسيطة فسقطت من أعلى الجبل لتصبح في جوف الأرض، وحيث لا ترى إلا الظلام ولا تشم إلا رائحة العطن، حاول أن تكتب وتهادن الموت أو تخدعه أو تبطئه، حتى يأتي ذلك الصباح الذي ينتظره كل أصحاب الضمائر الحية الذين ماتوا عن بُعد وعن قرب وهم يعيشون معك كل هذا الموت.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.