
من يشتري مني العرب؟
بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ برزت في الأدب العربي نزعة مازوخية. تلذذ الشعراء، باستثناء شعراء الأرض المحتلة، بشتم الذات القومية والتقليل من شأنها والمبالغة في احتقارها. كتب نزار قباني «هوامش على دفتر النكسة» ومظفر النواب «وتريات ليلية» وعبد الرحمن منيف روايته «حين تركنا الجسر».
لازمت النزعة المازوخية قباني في كثير مما كتبه وبلغت ذروتها قبل وفاته بسنوات قليلة حين كتب قصيدته «متى يعلنون وفاة العرب؟»، وتراجعت لدى النواب حيث لم يعد يلجأ إلى التعميم «ما أوسخنا لا استثني أحدا»، وصار يميز بين المقاوم والحاكم ولم يتبرأ أبدا من عروبته، إذ ظل منتميا إليها، معتزا بها، وهو ما بدا في قصيدته «المسلخ الدولي: باب بوابة الأبجدية»: «ولم يعد بنخلة أهله الدنيا فنخلة أهله الأزل».
وواصل منيف كتابته عن الديمقراطية والحريات وعالم السجون، ذاهبا إلى أن العرب لن ينهضوا إلا إذا شاعت الديمقراطية وانتشرت الحريات وتخلصوا من عار السجن السياسي.
اللافت هو أن أكثر شعراء المقاومة اختلفت نغمة كتابتهم، وأخص هنا درويش والقاسم ويمكن أن أضيف إليهما مريد البرغوثي، فنزعة التفاؤل التي طغت على أشعار الأولين بعد ١٩٦٧ تراجعت وحل محلها التشاؤم والشعور بالخذلان وتخلي العالم العربي عن الفلسطينيين. بدت هذه في مطولة درويش «مديح الظل العالي» التي صرخ فيها: «كم كنت وحدك!» و»عرب وباعوا روحهم عرب وضاعوا» و»لغة تفتش عن بنيها تموت ككل من فيها وترمى في المعاجم».
ولخص عنوان سربية القاسم موقفه «خذلتني الصحارى»، فيما كتب مريد في مطولته «طال الشتات» عن تخلي العرب في حرب ١٩٨٢ عن الفلسطينيين وخذلانهم «أهذا صوتك المخذول نادى أم أنك قد يئست من المنادى؟!».
في حروب غزة المتلاحقة منذ ٢٠٠٨/ ٢٠٠٩ علا صوت الغزيين باستمرار، معبرين عن عدم مناصرة العرب لهم، فما من حرب لم تتكرر فيها مقاطع من «مديح الظل العالي».
على أن شعور الغزيين بالخذلان وتخلي العرب والفلسطينيين غير المقيمين في غزة عنهم، لم يشبهه أي شعور سابق، وإذا أردت التأكد من هذا فما عليك إلا أن تتصفح وسائل التواصل الاجتماعي أو أن تشاهد أشرطة الفيديو التي تبث من هناك.
تعبير الغزيين عن معاناتهم وشعورهم بأنهم وحيدون في هذا العالم دفع قسما منهم إلى المطالبة باستقلال غزة وتعريف هويتهم بأنهم غزاويون، لا مسلمون ولا عرب ولا فلسطينيون. ولم تخل كتابتهم من الانتقاص من الآخرين ونعتهم بأنهم موتى بلا قلوب، وهذا استفز بعض العرب، بل وبعض الفلسطينيين، فأخذوا في تعليقاتهم يسألون أصحابها عما فعلوه إبان حصار العراق، وإبان ما تعرض له الشعب السوري منذ العام ٢٠١١. لقد حوصر العراقيون وجاعوا، وحوصر السوريون وتشردوا، فلجؤوا وأقاموا في المخيمات في الدول المجاورة كالأردن واحتقروا في لبنان، فيما واصل الغزيون حياتهم وشربوا قهوتهم الصباحية ولم ينتحروا ولم يتظاهروا.
كل ما سبق لا يعني أن هناك عربا كثرا لم يشعروا مع أهل غزة ولم يتعاطفوا معهم ولم يرفعوا أصواتهم هاجين ناقمين ساخطين شاتمين، ولعل أبرز قصيدتين تكرر نشرهما وقراءتهما، بل وحفظهما، هما قصيدة الشاعر اليمني فتحي مسعود «سنبيعكم! لكن لمن؟!» وقصيدة الشاعر فايز أبو جيش «من يشتري مني العرب؟» (آخر إدراج لها في ٧/ ٤/ ٢٠٢٥ في موقع الإمام حقق خلال ١٨ ساعة ٤٩٠٠ إعجاب و٧٠٠ تعليق و٢١٠٠ مشاركة وسيرتفع العدد خلال ٤٨ ساعة إلى ٢٧٢، ٤٤ إعجاب و٥٦٠٠ تعليق و١٦٢٠٠ مشاركة، وهذا له دلالته).
كلتا القصيدتين كتبت قبل الحرب الأخيرة بسنوات قليلة. كتبت الأولى في العام ٢٠١١ ونشرت في العام ٢٠١٩، وكما قرأت فقد كتبت الثانية بوحي من الأولى.
يقول مسعود:
«سنبيعكم لكن لمن؟! من يشتري منا العفن؟!/ من يشتري منا النجاسة والقذارة والفتن؟!/ من يشتري منا صراصير النذالة والوهن؟!/ من يشتري منا الكوارث والمصائب والحزن؟!/ من يشتري منا اللصوص المستغلين الخون؟!/ من يشتري العملاء والجبناء والأوساخ من؟!».
وحين نتمعن في القصيدة كاملة نعرف أنها كتبت في زعماء بلاده، ولكنها حين نشرت صارت تقرأ على أنها في العرب قاطبة.
أما أبو جيش المولود في دير علا في الأردن، فيكتب:
«من يشتري الأعراب مني، والعروبة والعرب؟/ من يشتريهم كلهم جمعا، بحمل من حطب؟/ من يشتري أشرافهم بحذاء طفل من حلب؟/ من يشتري أذقانهم؟ وله إذا ما شاء الشنب؟/ ما قد سمعنا عاقلا يبتاع من تيس ذنب؟»
وأعتقد أن ما قرأناه في القصيدتين يستحق المساءلة والمناقشة لا التسليم به على أنه قول فصل، وأننا في المقابل يجب أن ننظر إلى الجهات الأخرى التي قد يتمنى الشاعران أن يكون المهجوون مثلها حتى لا يعرضوا للبيع.
هل أميركا وإسرائيل والغرب، فيما ارتكبوه في ماضيهم ويرتكبونه في حاضرهم، لا يستحقون ما يستحقه العرب أيضا؟
في ستينيات القرن العشرين كتب درويش «سجل أنا عربي» وفيها صرخ: «نعم عرب ولا نخجل»، وبعد سنوات صرخ مظفر: «إن كنتم عربا بشرا حيوانات»، وبعده بثلاثة عقود تساءل قباني «متى يعلنون وفاة العرب؟» وقبل عقد من الآن عرضنا أبو جيش للبيع، و... ولست أدري ما الصحيح!
حالة تعبانة!