في تذكر علي الخليلي وفي الغياب الكبير
مقالات

في تذكر علي الخليلي وفي الغياب الكبير

قبل ساعة، عدت من جنازة الشاعر الصديق محمد دلة، غريبة هذه الأيام في فلسطين، لا يحيرني فقط نزف شهداء غزة المدوي، أفكر في موت الشعراء والفنانين والكتّاب المتعاقب: محمد دلة، وضاح زقطان، زكريا محمد، أحمد يعقوب، محمد الجولاني، زهير زقطان، نصري حجاج، عزت غزاوي، علي الخليلي، أحمد حرب، وآخرين، أهي مجرد صدفة أن يموت الشعراء في فلسطين بصورة متعاقبة؟ أم أن قلب الشاعر الفلسطيني لا يستطيع تحمل ما يجري في غزة فيختار التوقف على النبض المتعب تفاديا من حرج العجز عن الكتابة الصافية صفاء الشهيد؟ يذهب الشعراء الفلسطينيون إلى نهاياتهم تاركين القصيدة خلفهم كشهيدة أو شاهدة، ليس موتا عاديا هذا الذي يغطي فلسطين كلحاف شتوي، ليس غيابا مفهوما لكنه سؤال مكثف على سؤال: من سيكتب موت البلاد أيها الشعراء حين تختارون الموت تباعا؟، أتذكر تجربة الشاعر الأب والملهم علي الخليلي، الذي مات قبل سنوات، أتذكره حزينا يمشي في شوارع يستطيع جندي صهيوني عمره 19 عاما أن يقفلها، أتذكره وهو يهرب مع الهاربين تتساقط منه أغراضه، في حمى عتمة منع تجوال فرضه الاحتلال فجأة على رام الله، سمعت صوته وهو يهرب: القصيدة تهرب معي يا زياد هل تراها؟ ها هي معي، وأشار إلى ظله. مقهورا توقف قلب علي الخليلي، لكن قصائده ظلت وما زالت تركض داخلنا، محدثة فضاء من الحب ومصدرا للإلهام ودافعا للمقاومة.

كان علي الخليلي يقطع الشارع تحت نظراتي قوي البنية بمشية رمحية وعيني صقر يعرف ماذا ينتظره في الأعالي، فيواصل التحليق أعلى فأعلى، كان شاربه مجازاً مناسباً لحلمي أن أصبح ابن الدرب الجديد في الكتابة، مرتباً وقوياً ومعتداً بذاته وشديد النظافة، ويحلق أعلى فأعلى، إلى أين كان يذهب؟ أظل أراقبه ماطاً رقبتي على وسعها من النافذة حتى أكاد أسقط، ستمضي الأيام بي وبتجربتي، لأجد فجأة أن علي الخليلي يقدم كتابي الأول: (موعد بذيء مع العاصفة)، قال عني كلاماً شعرياً وحميماً وحزيناً سوف أظل أزهو به حتى اللحظة، كنت ما أزال أنظر شاربه الذي خطه قليل من الشيب وأذبله قليل من التعب، كتب علي الخليلي عشرات الكتب موزعة بين شعر وقص ونقد وتراث، وصل عددها مع آخر مجموعة شعرية صدرت قبل أسابيع عن اتحاد الكتاب الفلسطينيين (شرفات الكلام) إلى ثلاثة وأربعين كتاباً. ورئس تحرير مجلة (الفجر الأدبي) فترةً طويلةً مشجعاً فيها ومنتجاً عشرات الأسماء المبدعة التي ما زال بعضها يكتب حتى اللحظة.

في رام الله، كنت ألتقي الشاعر في الشارع أحياناً، أسلم عليه بحرارة مرتبكاً أمام شاربه الذي لم يعد أسود ومرتباً ومعتداً بذاته، أتذكر بداياتي الهشة والخجولة ورقبتي الملوية وهي تلحق بظله فيما هو يقطع الطريق إلى الرصيف الآخر ليوقف سيارةً ويذهب إلى حيث لا أدري، لماذا أكتب هذا النص؟ أهو رثاء متجدد لأجمل من كتب قصائد البلاد؟ أم هي مجرد تحية امتنان وحب وتكريم إلى رجل جميل أعطانا الكثير من المتعة والجمال على حساب صحته وعمره؟ أم هو اعتذار من رجل جميل لم نقم كما يجب بتكريمه بعد كل هذا العطاء الذي ما زال متواصلاً على الرغم من خبو بريق الشارب والخطوة والنظرة؟. أم كلاهما معا؟. لا أعرف حقاً.

يموت الشعراء الفلسطينيون بتوقف مفاجئ في القلب، ونحيا نحن القراء داخل حياة مستمرة، حياة تسمى قصائدهم، هل يموتون حقا ونصوصهم تشرق في دروبنا بل وتحولها؟؟ لا ينتهي الفلسطينيون ولن ينتهوا.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.