حروب العشرية الثالثة (25)
مقالات

حروب العشرية الثالثة (25)

شهدت غزة صعود إمبراطوريات وانهيارها، على مدار آلاف السنين، وكانت قرباناً في حروب كثيرة، وسددت الكثير من فواتيرها الباهظة. تُضاف، بهذا المعنى، عملية تدميرها، بما فيها من حجر وبشر، على مدار 18 شهراً، في حرب لم تتوقف بعد، إلى قائمة طويلة فعلاً من الشواهد التاريخية. ومن هذا المعنى، أيضاً، يمكن استنباط خلاصة مفادها أن يوماً تالياً سيكون دائماً في انتظارها.

أشرنا في ختام معالجة سبقت إلى فيديو يتكون من صور وتصوّرات وأخيلة صنعها الذكاء الاصطناعي ليوم غزة التالي بعد الحرب. حصد الفيديو عدداً هائلاً من المشاهدات، خاصة بعدما أعاد ترامب نشره عبر منصته الإعلامية في الفضاء الافتراضي.

ولعل في مجرد أن تكون الصور والتصوّرات والأخيلة من صناعة الذكاء الاصطناعي ما يضفي عليها أهمية استثنائية لأنه يستمد مُخرجاته من مُدخلات معيّنة. لذا، للمُدخلات، إذا تمكنّا من تعيينها، أهمية فائقة. وفي هذا ما يأخذنا إلى تاريخ الأفكار. فلكل زمن، منذ العصر الحجري، مصادر (مُدخلات) يستمد منها صوره، وتصوّراته، وأخيلته. وهي ليست موضوعية، بالضرورة، بل محصلة لعلاقات القوّة.

وبهذه الطريقة نكون قد اقتربنا من مدخل أوّل للتفكير في، والكلام عن، الفيديو المذكور. فهو نتاج لعلاقات قوّة فرضتها، أو تسعى لفرضها، قوّة مهيمنة. ففي زمن الفتوحات (الكنيسة، الخلافة، وإمبراطوريات الإغريق والرومان والفراعنة وفارس وبابل وآشور) وفي فتوحات الأزمنة الحديثة، كانت رموز الفاتحين وراياتهم أقنعة رمزية لشهوة التوّسع، والاستيلاء على ثروات الغير، التي تُختزل مادياً ومجازياً في بريق الذهب.

وقد استدعي وجود أقنعة لأغراض دنيوية تماماً، ضرورات من نوع أن يكون المجد أعلى مقاماً من الذهب، وأن تكون القداسة أعلى من نزوات الفاتحين. ولكن هذا كله يبدو فائضاً عن الحاجة في المُدخلات التي تجعل منها الإمبراطورية الأميركية في زمن انحدارها مصادر للصوّر والتصوّرات والأخيلة المصاحبة لتفادي النزول عن قمة العالم. ومن سوء حظها، ومن سوء حظ العالم، بالتأكيد، أن هذه المصادر لم تجد نموذجاً أكثر تمثيلية من مهرّج وتاجر عقارات يَعد الأميركيين بجعل بلادهم عظيمة من جديد.

يبدو عثور الإمبراطورية، في زمن انحدارها، على مخلّص في صورة مهرّج وتاجر عقارات دليلاً على مكر التاريخ، وميله الدائم إلى المزاح الثقيل. ومع ذلك، لا ينبغي التسليم بهذا كله كمصادفة موحية وغير سعيدة. فالصحيح أن صعود تاجر للعقارات، بالذات، في هذه اللحظة من حياة الإمبراطورية، يبدو منسجماً مع تحوّلات الرأسمالية العالمية نفسها.

تقلّصت، نتيجة التحوّلات، مصادر الربح والاحتكار والاستثمار وانحصرت في قطاعات، في طليعتها سوق التعمير والعقارات، وما يصاحبها من تمويل حروب، وتجارة تكنولوجيا وسلاح تؤدي إلى الهدم من ناحية، وجني الأرباح من إعادة التعمير من ناحية ثانية. وإذا وضعنا التكنولوجيا، وتمويل الحرب، وتجارة السلاح، وإعادة البناء في سلة واحدة، معطوفة على الاستيلاء على المناطق المراد الاستثمار فيها، نكون قد نجحنا في تفسير، ورسم صورة بانورامية للترامبية، ووكلائها العقاريين في الإبراهيميات، الذين تتجلى لهم القاهرة ودمشق وبيروت كفرص استثمارية هائلة.

ومع هذا في البال، تتموضع في مكانها المفردات البصرية (بكل ما فيها من دلالات ومجازات) لفيديو غزة بوصفها الريفيرا الترامبية الموعودة، كما تتموضع قطع الليغو في لعبة تتكون من آلاف القطع الصغيرة. فلا مكان، هنا، للمكان نفسه إلا بوصفه عقاراً على ساحل المتوسط، تم تجريده من الاسم، والذاكرة، والأهل، والتاريخ، وتحويله إلى شاهد على فتنة الذهب، وعبقرية الفاتح الجديد، الذي نقش اسمه المذهب على واجهة الفندق، وأطل تمثاله المذهب على المكان، كما تفعل تماثيل ذائعة الصيت (وغير مذهبة) ليسوع المسيح في مناطق مختلفة من العالم.

ومع ذلك، ومع كل هذا القدر من انحطاط المخيال العقاري (اقترح تاجر عقارات إبراهيمي في الآونة الأخيرة هدم القاهرة الخديوية، أي وسط البلد، وتحويلها إلى مكان سياحي)، وإذا وضعنا نرجسية وهبل المخلّص المُذهّب جانباً، إلا أن ثمة دوافع مادية وعملية مباشرة تضع ريفيرا غزة على جدول الأعمال.

ثمة الكثير من الأموال في الشرق الأوسط، والكثير من أصحاب الملايين والمليارات. يحتاج هؤلاء (وهم جماعة كوزموبوليتية) هم وشركاؤهم، في أميركا وإسرائيل على نحو خاص، للاستثمار في منطقة يمكن تأمينها من جانب القوتين الإسرائيلية والأميركية.

علاوة على الاستثمار، يمكن لمنطقة كهذه، في ظل قوانين مواتية، توفير الخدمات المصرفية، والاستجمام، والتفاعل الاجتماعي بين أصحاب الملايين على أرض محايدة، ناهيك عن المتع الدنيوية، على طريقة لاس فيغاس الأميركية، والمنتجعات الحصرية في الريفيرا الفرنسية، وشقيقاتها الإيطاليات والإسبانيات. وهذه في الواقع الدلالة المباشرة لفيديو الذكاء الاصطناعي. لذا، وبقدر ما يتعلّق الأمر بإمكانية التطهير العرقي لجانب كبير من السكّان المحليين (من يخرج لن يعود كما قال ترامب) فلا يوجد بين مُدخلات الذكاء الاصطناعي ما يضفي أهمية خاصة على أمور كهذه وغيرها من «التفاهات والنوافل» كالاستيلاء على أرض الغير، والحق في الاستقلال وتقرير المصير.

لا يندرج كل ما ذكرنا حتى، الآن، في باب القدر الذي لا فكاك منه. كل ما في الأمر أن المذكور من الصور والتصوّرات والأخيلة صار على جدول الأعمال، وأنه يسهم في تفسير تحوّلات تبدو اعتباطية، للوهلة الأولى، ولكن نظرة في العمق تدل على ما بينها، وفيها، من صلات وعلاقات متداخلة.. فاصل ونواصل.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.