
التعليم في فلسطين: بين موت مؤجّل، ونداءات غير واصلة؟
فخامة الرئيس محمود عباس،
معالي وزير التربية والتعليم،
السادة المسؤولون في دولة فلسطين،
تحية المجد من أرضٍ تشتبك صمودًا، تحية من زيتونةٍ لا تنكسر ولا تنحني، تحية إلى أقلامٍ تطلق رصاصها كما البندقية، لكنها اليوم مهددة بالانكسار، وسط حصار من وفود جهل متربّص، وانهيار للبنى التعليمية، وغياب الرؤية الوطنية المستدامة، في ظل حالة طوارئ باتت حالة عامة وروتينية.
أنا د. تهاني رفعت بشارات، باحثة فلسطينية، نشرت أكثر من 44 دراسة علمية محكّمة في مجلات عالمية مرموقة، لكنني لا أكتب اليوم بصفتي الأكاديمية، بل بصفتي الوطنية والإنسانية والأخلاقية، لأطلق نداءً باسم التعليم الفلسطيني الذي يئنّ تحت الركام والاستهداف، وباسم الطلبة الذين ضاعت سنواتهم وتضيع، والمعلمين الذين صارت كرامتهم عبئًا لا يُعترف به.
بعض الأرقام تتحدث:
وفقًا لتقرير وزارة التربية والتعليم الفلسطينية
أكثر من 45 ألف طالب وطالبة حُرموا من حقهم في التعليم الوجاهي المنتظم منذ بداية العدوان المتواصل على جنين وطولكرم.
تم رصد فاقد تعليمي تجاوز 40% في المواد الأساسية (الرياضيات، اللغة العربية، العلوم) بحسب تقارير ميدانية صادرة عن مؤسسات تربوية محلية.
تقارير نقابة المعلمين تشير إلى أن حوالي 65% من المعلمين في مناطق التوتر لا يستطيعون الوصول إلى مدارسهم لأسباب أمنية، فيما لم تُفعّل أية آلية مستدامة لتعويض النقص والفاقد أو الاستعانة ببدائل مؤقتة.
الطلبة في المناطق المتضررة سجّلوا انخفاضًا بنسبة 32% في التحصيل الأكاديمي مقارنة بأقرانهم في مناطق مستقرة، ما يُنذر بفجوة وطنية خطيرة تهدد العدالة التعليمية.
وفي قلب هذا الجرح المفتوح، تتجلّى ملامح النكبة التعليمية في محافظات جنين وطولكرم وطوباس وطمّون بأبشع صورها.
فالمعركة هناك لم تعد تُخاض فقط بالسلاح، بل تُشنّ أيضًا على عقول أطفالنا ومقاعدهم الدراسية. في محافظة جنين وحدها، أُغلقت 47 مدرسة (34 حكومية، 9 خاصة، و4 وكالة) منذ بدء العدوان الأخير، مما أدى إلى انقطاع التعليم لنحو 59 يومًا دراسيًا، وحرمان ما يزيد عن 16,978 طالبًا وطالبة من حقهم الأساسي في التعليم الآمن.
وفي طولكرم، أُغلقت 62 مدرسة (48 حكومية، 8 خاصة، 6 وكالة) لنحو 36 يومًا دراسيًا، فيما بلغ عدد الطلبة النازحين فيها أكثر من 2800 طالب. أما طوباس، وخصوصًا مخيم الفارعة، فقد تعطلت الدراسة في 6 مدارس (3 حكومية، 3 وكالة)، لمدد وصلت إلى 17 يومًا دراسيًا، بينما شهدت بلدة طمون توقف التعليم لعشرة أيام متواصلة، وتدهورًا كبيرًا في انتظام العملية التعليمية. وقد طالت الأزمة كذلك مدارس قباطية (13 حكومية، 4 خاصة، 1 وكالة) التي أغلقت لسبعة أيام دراسية، إضافة إلى رياض الأطفال التي أُغلقت بالكامل في هذه المناطق.
لم يكن الأمر مجرد إغلاق مؤقت، بل نزوح قسري لعشرات الآلاف من الطلبة، وتكدّس لا يُطاق في المدارس المستقبِلة، حيث تجاوز عدد الطلاب في بعض الصفوف الخمسين، وانهارت البنية التحتية للدعم النفسي، وسادت حالة من التيه الأكاديمي والنفسي لدى الأطفال، الذين باتوا يحملون في حقائبهم رائحة الدخان أكثر من الكراسات. إن هذا الواقع لا يهدد حاضر الطلبة فحسب، بل يزرع قنبلة موقوتة في مستقبل الوطن بأسره، ويفتح هوّة سحيقة في مفهوم العدالة التعليمية بين من يعيشون تحت النار، ومن يتعلمون في هدوء بعيدًا عن جحيم القنابل.
فخامة الرئيس، معالي الوزير،
هل يعقل أن يتقدم طالب التوجيهي من مدينة جنين لنفس نموذج امتحان الثانوية العامة الذي يقدمه طالب من مدينة أخرى دون أي اعتبارات للظروف الاستثنائية؟
هل يعقل أن تُترك آلاف الأسر في حالة انتظارٍ قاتل، دون خطة إنقاذ واضحة، أو حلول تربوية بديلة على الأرض؟
نحن لا نتحدث عن طارئٍ عابر، بل عن أزمة بنيوية تهدد نواة المجتمع الفلسطيني: التعليم.
واقعيًا، يمكننا أن نبدأ بخطوات ممكنة التنفيذ:
إطلاق حملة وطنية تطوعية لمشاركة الخريجين الجدد في تقديم دروس تعويضية في العطلة الصيفية، مقابل شهادات خبرة وتقييم أكاديمي موثق.
الاستعانة بالمعلمين والمعلمات المتقاعدين وفق تخصصاتهم لسد العجز المؤقت في الكوادر التعليمية.
إطلاق منصة إلكترونية وطنية موحدة للدروس المصورة والمادة التعليمية المنظمة، بإشراف أكاديمي من الوزارة.
تفعيل دور الإرشاد النفسي والاجتماعي في المدارس المتضررة، إذ أن تقرير جمعية أطباء بلا حدود (2023) أشار إلى أن نسبة 70% من طلاب جنين وطولكرم يعانون من اضطرابات نفسية مرتبطة بالقلق والخوف بعد الأحداث الأخيرة.
فتح باب التعاون مع الباحثين لتطبيق نتائج الأبحاث في مجالات الدراما، التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي، كوسائل بديلة لمعالجة الفاقد التعليمي.
سيادة الرئيس،
إن قضية التعليم اليوم ليست رفاهية، بل معركة وجود. معركة نحدد فيها: هل نُبقي الوطن حيًا بالعقل والوعي، أم نتركه ينهار في صمتٍ مميت؟
نحن بحاجة إلى قرار وطني عاجل وشجاع، قرار يُنقذ أبناءنا من الضياع، ويعيد للمعلم مكانته، وللطالب أمله، وللوطن مستقبله.
أنقذوا التعليم، فهو نَفَسُ الوطن.
أنقذوا المعلم، فهو نُواته.
أنقذوا الطالب، فهو نُبضه.
هل من مجيب؟