عن كتابة الحياة والحرب في بلادي!
مقالات

عن كتابة الحياة والحرب في بلادي!

يوماً ما، وعدتُ أصدقائي وزملائي من جيلي، جيل التسعينيات، أن أكتب قصتي الصافية.

لغتي أُصيبت بالإرهاق، يا رفاق، وعيناي تكلّستا من تكرار نفس الصور.

سأفحص فكرة التخلّي عن فلسطين في قصصي، لا من باب الإحساس بأنها عبء جمالي على نصوصي فقط، بل من باب الملل أيضاً من هذه الفكرة المتكرّرة المُلحّة، التي تطارد نصوصنا في كل مكان.

الفكرة التي أتذكّر سياقها المظلم بوضوح: كنت في الصف السادس الابتدائي في مدرسة مخيم الجلزون، قضاء رام الله، في حصة الإنشاء، أمام مدرس اللغة العربية، وكان بالمناسبة خالي، شقيق أمي.

كان يحمل عصاً خشبية يلوّح بها أمامنا، بصوت مثقل بلهجة تهديدية غير مفهومة، وبسعالٍ ودخانٍ وتعب قِلّة النوم، وهو نفس تعب أبي وأعمامي الصباحي، أظنه ربما بسبب اقتحامات الاحتلال الليلية اليومية للمخيم.

اكتبوا عن ذكرى تقسيم فلسطين، بما لا يتجاوز عشر صفحات.. اكتبوا عن مجزرة كفر قاسم، بما لا يتجاوز عشر صفحات.. أحد أصدقائي أقسم لي أنه كان يسمع مباشرةً بعد هذه الجمل كلمة: «وإلّا...».

سأخلع «فلسطينيتي»، كما يخلع ربّ أسرة متعب، عائد من يوم عمل مرهق، جاكيته الذي يلبسه منذ سنوات طويلة.. لن أعلّقه وراء الباب على مشجب، سأطويه بطريقة غير منتظمة وأدسّه في رطوبة رفٍّ من رفوف خزانتي.. سأُبقيه هناك، ولن أضعف أمام أنين أزراره، وهي تنادي ضمير صدري.. سأكتب عن حكاية حدثت معي، سأكون بطل الحكاية.

كان من أهم سمات القصة الجديدة في فلسطين، بعد الانتفاضة الأولى في أوائل التسعينيات، والتي أزعم الانتماء إليها مع جيلي، أنها قصص حدثت بالفعل، وكنا شاهدين عليها.

هذه السمة لم تكن موجودة من قبل، هكذا زعمنا، فالكاتب الذي سبقنا لم يكن يكتب عن تجاربه وحياته الشخصية؛ لأنه كان مشغولاً بوصف بحر الدم المُراق أمامه، ولا وقت عنده للتفكير في أمر آخر.

هذا ما كنا نعتقده، وهكذا أردنا أن نتميّز ونقفز، ونصبح حداثيين، ومُجددين، ومجانين.. كنا نحب أن تُطلق علينا كلمة «مجانين»، ففيها ما يُدغدغ ويبهر ويُلفت النظر.
«هذا جيلٌ مجنون! من أين جاء هؤلاء؟ ومن يظنون أنفسهم؟».. يا الله! كم كانت هذه العبارات تُحولنا إلى عمالقة.

«يظنّ هؤلاء الحمقى أن الاحتلال قد رحل! وهم يطلقون العنان لانحرافاتهم غير المحترمة!».. كان هذا الموقف كفيلًا بجعلنا نبكي من الفرح.

أخيراً، استطعنا القفز من السفينة القديمة، ومواصلة الإبحار بطريقتنا، أوفياء للتجارب والهويات المتعددة في سياقاتنا المأساوية.

لم تبدأ لغتنا الجديدة في الحياة بعد الانتفاضة فقط، بل بدأت حياتنا نفسها من جديد: عفوية، حرّة، مجنونة.

أخرجنا من قلوبنا الأرائك القديمة، جدّدنا القمصان، وخِطنا معاطف جديدة تُناسب شتاء بلادنا الجديد.

قالت لي: «أريد أن أعيش تجربة حبّ غريبة، في مكانٍ غريب، لا جنود فيه، ولا شهداء. أريد أن يحدث ذلك، حتى لو في مقبرة».

دسّت لي جمانة هذه الكلمات من تحت بابي.. كنّا نسكن مخيماً واحداً، ونحمل حبّاً خائفاً واحداً.

حدث ذلك بعد أن وضعت الانتفاضة الأولى أزرارها على الطاولة، وسلّمتها لقميص حياة جديدة.. كانت رفيقة لي طيلة سنوات الانتفاضة في ساحة المظاهرات.

كنت أحبها، وكانت تحبّني، لكننا لم نجرؤ على الاعتراف لبعضنا البعض، خوفاً من الإحساس بذنب الخيانة، أو ربما خجلًا من التفكير في الموضوع، ورفاقنا يسقطون شهداء حولنا، أو جرحى أو معتقلين.

كانت تأتي إلى بيتي في آخر الليل. نغلق الباب خلفنا. ولم نكن نقلق من أن يفكر أحد من أهلي أو أهلها بأننا نمارس الخطأ.

كانوا يعرفون أننا أوفياء بشكل هستيري للفكرة المقدسة، المسماة «فلسطين»، وأن لا وقت لدينا للعب.

كنت أكتب معها بيان الحزب، نتشارك بهاءه وقوته: هي تعطيه لمحات شعرية وفلسفية، وأنا أعطيه قسمات واقعية ميدانية تحريضية وجدانية، فيخرج رغيف وجدان جماعي وطني ساخن، وجاهز للأكل.

شعرتُ بالرعب وأنا أقرأ رسالة جمانة، ذلك الرعب اللذيذ الذي يُشبه طعم قبلة أولى لرجل مستقيم أمضى حياته يتدرّب عليها سرًّا.

أرسلتُ لها: «انتظريني في آخر شارع المصيون، قريباً من مقبرة المسيحيين، مقابل معهد المعلمات، وخلف سور مدرسة الذكور الثانوية، ليس بعيداً عن وزارة التربية والتعليم، وحين ترينني أدخل المقبرة، الحقيني.

ابحثي عن قبر ميليا، شقيقة الكاتب الكبير خليل السكاكيني.

ميليا الطويلة، الحادة مثل رمح، التي ماتت عام 1967.. ميليا التي نحبها، والتي استشهدنا بمواقفها في بياناتنا الحزبية، كم أُعجبنا بها وهي تؤسس مع زليخة أبو ريشة أول اتحاد نسائي فلسطيني، وهي تهاجم الجنود البريطانيين حين كانوا يعتقلون شباب الثورة في شوارع القدس أوائل الأربعينيات.

جلستُ مع جمانة، كتفاً منهاراً إلى كتف مغمى عليه، تحت شاهد قبر ميليا.. كنّا نرتجف صامتين، وعيوننا تهرب من بعضها البعض.

في يدها نامت يدي، وفي هذه اللحظة استيقظت يدانا على أصوات هتاف الطالبات وراء سور المقبرة.. كان القرار ألّا ننتبه لأي صوتٍ يأتي من الزمن القديم الذي أكل حياتنا ورماها عظاماً، أن نواصل جنوننا، حتى أفي بوعدي وأكتب قصة صافية، نقية من الاحتلال وأصواته.
علت أصوات الطالبات، وانضمّت إليها أصوات طلاب المدارس المجاورة.
شعرنا بالانزعاج، لكنني حثثتها على تجاهل كل صوت لا يصدر من روحي أو روحها.
نهضتُ مع جمانة، اختبأنا خلف الشجرة التي تظلّل قبر ميليا، وهناك ظللنا واقفين مرتجفين، على إيقاع أصوات الرصاص الذي انطلق مع وصول جنود الاحتلال.
خافت جمانة. قالت لي:
«أنا خائفة... خائفة. أحسّ أن الرصاص قريب منّا.»
كنت أحاول طمأنتها، ونغيب في هيولى الصفاء السردي.
حين أكتب هذا الشعور اللطيف سأُلغي كل هذه الأصوات من قصتي.
سنكون في القصة فقط: جمانة، وميليا، وأنا، والشجرة.
وحتى الرصاصة المطاطية التي جاءت من الزمن الآفل، والتي طارت من خلف السور واخترقت ظهري وجعلتني أقفز هلعًا وألمًا... سأحذفها من القصة.
على سرير المشفى، كان أصحابي يضحكون عليّ:
«كيف ستحذف الرصاصة من قصتك؟ أَتَجْرُؤ على ذلك؟»
ولماذا لا أجرؤ؟
ألم نخرج من زمن السفينة القديمة؟
لا، لم نقفز. بقينا فيها.
فقط جدّدنا السفينة، طليناها بطلاء جديد، واشترينا مجدافًا قويًا، وسارية متينة. لكن الاتجاه بقي هو هو.
جدّد نصّك الفلسطيني من داخله، وإيّاك أن تقفز منه.
في البيت، ليلًا، كنت غزير العرق، أفكّر: كيف سأكتب تجربة الحب الجديدة، والمكان الغريب، دون أن أكون وفيًّا لما حدث؟
ألست صاحب فكرة الكتابة عمّا يحدث؟
ألست شاهدًا على ما حدث؟
كيف، إذن، سأحذف مشهد الرصاصة التي اخترقت  ظهري.
وكيف سأُلغي الحديث عن ماضي ميليا، وبطولتها؟
لماذا لا أكتب بصدق عمّا حدث؟
عن عمى الحب وانفلات الوحش المخبوء داخلي، وعن رصاصة الأعداء التي انطلقت من خلف سور المقبرة، وركضت باتجاهي، وصفعتني على ظهري...  وظهر نظرية النصّ السردي الفلسطيني الصافي.
تلك الليلة نضجت بسرعة كبيرة.
عرفتُ أن الموضوع الدرامي بسيط، ولا يستحق كل هذه الثرثرة.
باختصار شديد:
اكتب، يا زياد، عن حُمّى الحب وعن حُمّى الرصاص، بمقاربة تخصك أنت، تخص عقلك وتجاربك وأسلوبك.
ركضتُ إلى جاكيتي في الخزانة.
حملته، وذهبت به إلى الخيّاط، الذي أجرى عليه، بناءً على طلبي، تقصيرًا من هنا، ورَتقًا من هناك، وتعميقًا للجيوب، وتغييرًا لشكل ولون الأزرار.
لكنه بقي جاكيتي. الشاهد على كل جوعي، وأناقتي.
في النهاية، نحن نكتب الحياة، والحياة في بلادي هي الحرب.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.