
في مسار تغيّر المجتمع الإسرائيلي
اقتبس الصحافي الإسرائيلي والناشط من أجل السلام، أوري أفنيري، عن جان بول سارتر، قبل 15 عامًا، مقولة فحواها: "معروف أن كل إنسان عنصري، والفارق هو بين من يعترف ويحاول محاربة عنصريته، ومن لا يحاول"، كي يجزم بأن "إسرائيل تعانق شيطان العنصرية"، وبأنه "بعد أن كان اليهود مئات الأعوام ضحايا العنصرية، يبدون الآن وكأنهم سعداء بقدرتهم على أن يلحقوا بغيرهم ما لحق لهم". ونوّه بأنه لا يمكن تجاهل المكان المركزي الذي يحتلّه الحاخامون في هذه الموجة العكِرة، التي يركبونها ويدّعون أنها هي روح اليهودية، ويذكرون عديدًا من مقتبسات الكتب المقدّسة. ورأى كذلك أن العنصرية ترفع رأسها القبيح في مختلف أنحاء البلد، واصفًا إياها عنصرية علنية، غير خجولة، تفتخر بنفسها. ولكنه أقرّ بأن العنصرية، بحد ذاتها، ليست ظاهرة جديدة في المجتمع الإسرائيلي، إنما الجديد فقدان أي ذرّة من الخجل، فالعنصريون يبثون سمومهم علنًا، ويحظون بتأييد من السياسيين والحاخامين.
وتمثلت العنصرية، في ذلك الوقت، بسيل من اقتراحات قوانين تهدف إلى إقصاء العرب عن الجمهور اليهودي. بعد ذلك، جاء طلب الحاخام الأكبر لمدينة صفد بعدم تأجير دور سكنية للعرب. وانضم حاخامون كثيرون إلى المطالبة بعدم تأجير المنازل لـ"الأغيار". وطالبت تظاهرة صاخبة في بات يام بطرد كل العرب من المدينة، فيما طالبت تظاهرة أخرى في اليوم التالي بطرد اللاجئين والعمّال الأجانب من أحد أحياء تل أبيب.
وينعكس هذا الواقع القائم بشكل تصاعدي على الخريطة السياسية الحزبيّة، حيث أظهرت نتائج آخر انتخابات إسرائيلية عامة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 أن "اليسار الصهيوني" وكذلك الوسط فئة آخذة بالتلاشي في المجتمع الإسرائيلي. وبموجب أبحاث إسرائيلية، هذا التلاشي لا يتجسّد فقط من خلال الأرقام والمقاعد في نتائج الانتخابات، بل المقصود شيءٌ أعمق بكثير، من خلال مسار تغيّر المجتمع الإسرائيلي منذ أعوام. ومن أوجه هذا التغيير تصاعد القومية المتطرّفة، والعنصرية، وكراهية الآخر، والمسيانية، والتطلّع إلى زعيم متسلّط، ومأسسة الأفكار الدينية، ونزعات الاستقواء العسكري، وتأييد الاحتلال، والاستخفاف بسلطة القانون، واحتقار القيم الليبرالية الغربية.
وبلغة الإحصاءات، يمكن القول إن "اليسار - الوسط" وكلّ مَن يمثلهما يخوضون، منذ 1992، حربًا يصفها محلّلون عديدون بأنها وجودية، ففي ذلك العام نجح يتسحاق رابين في قطع الطريق على تواصُل نجاحات اليمين منذ 1977، وبعده فعل ذلك إيهود باراك في عام 1999، ويائير لبيد (بمساعدة اليميني نفتالي بينت) في 2021. ولكن فترة حُكم هؤلاء الثلاثة، أو الأربعة مع بينت، استمرت قرابة أقل من خمسة أعوام، وهو ما يعني نحو 16% من الأعوام الثلاثين الأخيرة.
ينبغي هنا إعادة التذكير بأن اليسار الإسرائيلي لم يكن حركة اجتماعية أصيلة، وإنما كان "معسكر سلام". ولكن حتى هذا المعسكر لم يعد قائمًا في إسرائيل في الوقت الحالي. والذي قضى على هذا المعسكر لم يكن يغئال عمير (اغتال رابين)، وإنما إيهود باراك (الرئيس السابق للحكومة ولحزب العمل)، الذي أعلن (في إثر قمة كامب ديفيد في 2000) أنه "لا يوجد شريك فلسطيني للسلام".
تنعكس كل هذه التغيرات ببريق كبير في الوقت الحالي، وفي خضم حرب الإبادة على قطاع غزّة. ولئن كان هناك من يعتقد أو يأمل بأن يضغط رئيس الولايات المتحدة على الحكومة الإسرائيلية لوقف الحرب، فإن الاعتقاد أو الأمل بأن تغيّر إسرائيل عاداتها مجرّد وهم.
ومثلما سجّل أحد الكتاب الإسرائيليين أخيرًا: الآية "هو ذا شعب يسكن وحده ولا يحسب حسابًا للأغيار" صحيحة الآن أكثر من أي وقت مضى. لكن ليس بمعنى أنه ليس هناك مفرّ سوى الاتكال على النفس، بل بمعنى أنه يوجد خيار وهو: ما يريده الشعب. والشعب يريد الانغلاق، وأن يدير ظهره للعالم الغربي والقيم الديمقراطية، ويريد قمع العرب أكثر فأكثر وضم المناطق المحتلة.

ماذا بعد الاعتراف بدولة فلسطين؟

تهويد الضفة وإسقاط السلطة

الكل الأمريكي والإسرائيلي في دائرة واحدة .. داخل الدائرة دوائر، بدايتها تخلف عن الأخرى ل...

المفاوضات النووية والهيمنة الأميركية

لماذا كل هذه البلادة أمام ما يجري؟

ما خفي أعظم ولكن في الاتجاه المعاكس

حروب العشرية الثالثة (26)
