لماذا كل هذه البلادة أمام ما يجري؟
مقالات

لماذا كل هذه البلادة أمام ما يجري؟

يتساءل الكثيرون، خصوصاً الضحايا الذين يكتوون بنيران الحقد، والاستهتار بالقيم التي راكمتها البشرية عَبر قرون من الصراعات الدامية.. يتساءلون عن أسباب ما يكابدونه.

إذا كان أهل فلسطين هم النموذج الذي يثير بقوة ووجع هذا التساؤل فإن ثمّة آخرين في السودان، والصومال، وليبيا، وأفغانستان والعراق، وصفحة مفتوحة من الظلم والاضطهاد الذي عاشته شعوب كثيرة في مختلف القارّات.

السؤال يذهب إلى ما يسمّى المجتمع الدولي، بكل مؤسّساته ومنظومته القيمية، التي تعجز عن تقديم أبسط مقوّمات الحياة لسكان قطاع غزّة، وتتركهم وجهاً لوجه أمام الحرب العدوانية والكارثية والاجتثاثية والتجويع والمرض.

لم تعد المناشدات تنفع ولا مشاهد قتل الأطفال والنساء، وتدمير المدارس والمساجد، والمستشفيات، ولم تعد تنفع لحماية المسعفين ورجال الدفاع المدني والخيام المهترئة، والعاملين في مجال الإغاثة بما في ذلك المتطوّعون الأجانب.

كما لم تعد تنفع صرخات الاستغاثة، في تحريك العرب أو المسلمين، فكل شيء مرهون فقط بقرارات أميركية الأصل، وإسرائيلية الفرع.

أين الأمم المتحدة ومؤسّساتها، أين المحكمة الجنائية الدولية، التي كان عليها أن تكمل قائمة الجناة المتهمين بارتكاب جرائم الحرب الإبادية؟ وأين محكمة العدل الدولية التي تتعاطى ببطءٍ شديد مع ملف لا يحتمل التأخير؟ الكل انضم إلى قافلة المندّدين والمطالبين، من دون أن ينجح أحد في تحريك الواقع الذي يزداد وحشية وصعوبة، ويُترك الفلسطينيون في غزّة بين خيار الموت قصفاً وبطشاً وعدواناً أو الموت جوعاً ومرضاً.

يتجاوز عدد الفلسطينيين الـ14 مليوناً، منتشرين في بقاع الأرض، فهل بات الجميع يرى أن هذا الشعب عبارة عن «وحوش بشرية»، لا بدّ من التخلّص منها، أم أنهم المسؤولون عن المظالم التي تنتشر في طول الأرض وعرضها؟

هل يمكن تجاهل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، والعدالة التي طوّرتها البشرية، ودفعت ثمنها عشرات بل مئات ملايين البشر، أم أن ثمّة من وظّفها أبشع توظيف لخداع الشعوب، من أجل السيطرة عليها ونهب ثرواتها؟

كان المفكّر الأميركي ياباني الأصل فرانسيس فوكوياما، قد وقع في خطأ عمره حين قال بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، إن الرأسمالية هي نهاية التاريخ، إذ لم يعد أحد يسمع بأمره.
بعد الحرب العالمية الأولى، نشأ نظام دولي ثنائي القطبية، طرفه الأوّل، الاتحاد السوفييتي، وطرفه الآخر، الرأسماليات الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن أنهكت الحروب أوروبا الغربية، ووضعت حداً لزمن الإمبراطوريات الاستعمارية.

في الصراع المرير بين الاشتراكية والرأسمالية، استخدمت أميركا وحلفاؤها الغربيون، مزاعم الديمقراطية وحقوق الإنسان للتحريض على النظام الاشتراكي، الذي كان يُتهم بالشمولية والديمقراطية، وتجاهل حقوق الإنسان.

كانت هذه المنظومة القيمية، واحدة من أهم أسلحة النظام الرأسمالي لإثارة الفتن، والصراعات، مدعومة بجملة من الأذرع المدجّجة بالأموال، والمعونات المسمومة، والأجهزة الاستخبارية، من أجل محاصرة التمدُّد والنفوذ السوفييتي.. ودائماً كانت شركات إنتاج الأسلحة، جاهزة لتلبية كل الطلبات، ليس تبرعاً وإنّما مقابل ثروات الجماعات والأنظمة التي كانت تصدق المزاعم الرأسمالية.

أميركا التي لم تدفع أثماناً وتكاليف باهظة، كالتي دفعتها شعوب أوروبا الغربية المنتصرة والمهزومة، والاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية خرجت من تلك الحروب، أقوى من الجميع، والأجدر بقيادة العالم.

أوروبا أصبحت بعد «مشروع مارشال»، مرهونة للحماية الأميركية إلى الحدّ الذي أفقدها استقلاليتها، وها هي تحصد نتائج تلك الحقبة، بالنظر للسياسة الإخضاعية التي تنتهجها إدارة دونالد ترامب.

ولتعظيم دورها، في إدارة الأمم المتحدة ومؤسّساتها، تحمّلت أميركا العبء الأكبر من موازنة المنظمة الدولية، من أصل 3,9 مليار دولار هي الموازنة السنوية للأمم المتحدة، تتحمّل أميركا ما يزيد على ربع الموازنة بمقدار 1,3 مليار دولار.
وبالإضافة تتحمّل أميركا النفقات التشغيلية للمجلس الدولي لحقوق الإنسان ومقدارها 50 مليون دولار.

لقد لاحظ الجميع أن أميركا حين مارست الضغط على قضاة «الجنائية الدولية»، فإنها هدّدت بقطع الرواتب والمعونات التي تقدمها للمحكمة.

سقط وانهار الاتحاد السوفييتي، وأعلن جورج بوش الابن من الكويت العام 1991، قيام «النظام الدولي الجديد» بقيادة بلاده، ومن دون منازع، لكن منظومة القيم الإنسانية، صمدت رغم أن أميركا وحلفاءها استمروا في استخدام تلك القيم من أجل وراثة مناطق النفوذ التي انحسر عنها النظام الاشتراكي.

لم تعد الأمم المتحدة ومؤسّساتها، ومنظوماتها القيمية، أدوات مقاومة فعّالة لوقف الطغيان الأميركي، الذي تحكّم في قراراتها، ومدى فعاليتها ودورها، لصالح الإستراتيجيات والمصالح الأميركية.

منذ أن دخلت الصين على خطّ المنافسة القوية للهيمنة الأميركية، بدأ التحوُّل على أكثر من صعيد، إذ كشّرت الإمبريالية عن أنيابها، وأخذت منظومة قيم الإنسان والعدالة والديمقراطية تسقط الواحدة بعد الأخرى، فهي قد خدمت لفترة معيّنة، قبل أن تفقد صلاحيتها.
أميركا، اليوم، تتّبع سياسة الانحياز للظلم والاستكبار من دون مواربة ولا تخجل من أن يدرك الجميع أنها تتّبع معايير مزدوجة، ارتباطاً بمصالحها.

منظومة القيم التي تتحدث عنها أصبحت في «الباي باي»، لا تحميها التصويات شبه الجماعية التي تصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا التحقيقات التي تجريها مؤسسات حقوق الإنسان، أو المحاكم الدولية.

في الداخل الأميركي لم تعد هذه المنظومة تعمل، فالقمع لمن يؤيّد فلسطين، والترحيل خارج إطار القانون، وطرد المهاجرين، وحجب الموازنات عن الجامعات وطرد الموظفين الفيدراليين.. والقائمة تطول.

لا يعني ذلك أنّ النضال من أجل حقوق البشر، لم يعد مجدياً، لا بل إنه ذات قيمة كبيرة لأنه إذا أسقطت الحكومات والأنظمة هذه المنظومة القيمية، فإن الشعوب قد تربّت عليها، حتى أنها أصبحت جزءاً متجذّراً من حياة الناس وثقافتهم وتراثهم.

العرب طبعاً خارج هذا السياق تماماً، فهم لم يستخدموا هذه القيم ولم يقتنعوا بها أو يمارسوها، ولذلك لا نلاحظ حراكات شعبية ذات قيمة تتعارض مع سياسات الأنظمة، ما جعلهم متفرّجين على ما يجري.

الدنيا تتغيّر نحو الأفضل، بعد سقوط الأقنعة، ويبقى الأهمّ، وهو الاعتماد على الذّات أوّلاً قبل انتظار الفرج من الآخرين.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.