المفاوضات النووية والهيمنة الأميركية
مقالات

المفاوضات النووية والهيمنة الأميركية

صدى نيوز -تستكمل المفاوضات النووية جولاتها يوم السبت القادم، في تطور متسارع باتجاه توقيع اتفاق ممكن بين الطرفين الأميركي والإيراني. وترجح المعطيات المتبلورة والتطورات المتلاحقة في المنطقة أن تتوج تلك المفاوضات باتفاق، كان يرفضه الرئيس الأميركي دونالد ترامب من قبل. وتفصح التفاعلات المتلاحقة المصاحبة لجولات المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة، بوساطة عمانية، ناهيك عن مرتكزات تلك المفاوضات، عن تراجع هيمنة ومكانة الولايات المتحدة الحصرية في المنطقة، وبدء الاستعداد لمرحلة سياسية جديدة، تحمل في طياتها تغيرات بنيوية مهمة، قد تغير المنظومة السياسية للشرق الأوسط، ولكن ليس وفق الرؤية الأميركية الإسرائيلية.

تبدأ الجولة الثالثة من المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران بوساطة عمانية بعد غد، وستكون المفاوضات حول القضايا الفنية. وتشير تلك الجولة التي ستكون على مستوى الخبراء بحدوث تقدم واضح في إطار التفاهمات والقواعد التفاوضية العامة، في زمن قياسي لم يتجاوز الأسبوعين. وبدأت الجولة الأولى من تلك المفاوضات يوم السبت الموافق 12 من الشهر الجاري، ولحقت بها جولة ثانية جرت في الأسبوع التالي. ورغم كل ما يثار حوّل اضطرار إيران للدخول في هذه المفاوضات، بعد التطورات المتلاحقة التي لحقت بقدراتها الصاروخية الدفاعية، وبحلفائها في لبنان وسورية وفلسطين، إلا أن هناك عدداً من المعطيات لا بد من وضعها بعين الاعتبار، وتقدم تفسيراً مختلفاً.

بادرت الإدارة الأميركية لعقد تلك المفاوضات. وقبل وصوله للحكم، صرح ترامب بنيته عقد اتفاق مع إيران، وقبل شهرين دعت الولايات المتحدة لعقدها، كما أرسلت رسالة بذلك لإيران عبر دولة الإمارات العربية. وتركز المفاوضات النووية الحالية على الملف النووي الإيراني بشكل خاص، وتدعي إيران بأن ذلك السبب تحديداً، كان وراء انخراطها في تلك المفاوضات. إلا أن الواقع وتطورات الأحداث في المنطقة يشير إلى رغبة إيران الواضحة في عدم التورط بحرب مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة. ويعطي ترامب مهلة شهرين لهذه المفاوضات لإنجاز مهامها، الأمر الذي يعني تأجيل حدوث حرب مع إيران خلال تلك الفترة، على غير الرغبة الإسرائيلية المعلنة.

وكانت الولايات المتحدة قد انسحبت من الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة الرئيس باراك أوباما مع إيران في العام 2015. وادعت إدارة ترامب السابقة، التي انسحبت من ذلك الاتفاق في العام 2018، بأن الاتفاق ضعيف، لأنه لم يشمل ملف الصواريخ البالستية والاختراق الإيراني الإقليمي. ورغم ذلك تدخل الولايات المتحدة المفاوضات الحالية مع إيران حول ملفها النووي بشكل محدد، الأمر الذي يؤكد أن تلك المفاوضات لم تخرج عن حدود تلك السابقة، التي امتدت لأكثر من 21 شهراً، وأنتجت في النهاية اتفاق عام 2015.

ولا تمانع إيران تقييد وتتبع ومراقبة برنامجها النووي لضمان عدم عسكرته، فهي تدعي بأنها لا تطمح لبناء سلاح عسكري نووي، ويحرم المرشد الإيراني الأعلى اقتناء سلاح نووي عسكري. ووافقت إيران على تقييد برنامجها النووي ومراقبته في اتفاق عام ٢٠١٥، من خلال تقييد مستوى تخصيب اليورانيوم لنسبة تخصيب لا تتجاوز الـ 5 في المائة، وتقييد عدد ومستوى تطور أجهزة الطرد المركزي التي تعمل على التخصيب، وسمحت برقابة اعتبرت الأشد عالمياً على برنامجها النووي من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ويتحدث ستيف ويتكوف مبعوث الرئيس ترامب للشرق الأوسط، والمفاوض الرئيس في الجولات التفاوضية الحالية مع إيران عن ضرورة ضمان عدم تطوير إيران لقدرات نووية عسكرية. وحدد في أحد تصريحاته ضرورة عدم تجاوز نسبة التخصيب عن 3.67 في المائة، وهي النسبة المحددة بالضبط في اتفاق عام ٢٠١٥، قبل أن يتراجع بعد ذلك، ويدعو لنسبة تخصيب صفر في المائة، أي بات يطالب بوقف التخصيب نهائياً. وتدخل إيران المفاوضات الحالية وفق شرطين، الأول يتعلق باحتفاظها ببرنامجها النووي السلمي، والثاني يرتبط بالأول ويركز على استمرارها بتخصيب اليورانيوم، بنسبة تسمح لبرنامجها النووي السلمي باستكمال طريقه. وتتعارض تلك الخطوط الحمراء الإيرانية مع مطالبات إسرائيل، التي تريد تفكيك البرنامج النووي برمته. ويبدو أن الولايات المتحدة التي وافقت على خطوط إيران الحمراء في الماضي، لا تعارضها اليوم، والمفاوضات الفنية ستدور حول نسبة التخصيب وعدد ومستوى أجهزة الطرد المركزي، الذي يضمن بقاء برنامج إيران النووي ضمن الحدود السلمية. ويبدو أن طلب إيران مبرَر ومقبول غربياً وأميركياً، في ظل تزايد الاهتمام ببناء المشاريع النووية السلمية، لإنتاج الطاقة البديلة.

وحسب اعتقاد خبراء غربيين، استطاعت إيران، بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام ٢٠١٨، تخصيب سبعة أطنان من اليورانيوم بنسبة 60 في المائة، وتحتاج لرفع نسبة التخصيب لـ 90 في المائة، ليصنع كل طن منها قنبلة نووية. ويشكل ذلك هاجساً أميركياً إسرائيلياً، إلا أن الواقع لا يعلمه فعلاً إلا إيران، التي أوقفت الرقابة الدولية على برنامجها النووي تدريجياً، وزادت من عدد وتطور أجهزة الطرد المركزي، ورفعت نسبة تخصيب اليورانيوم بشكل كبير، وافتتحت مختبرات ومفاعلات نووية جديدة، لم تحدد موقعها بالضبط.

يشير الحراك في المنطقة الذي صاحب انعقاد جولات المفاوضات النووية الحالية عن تطورات سياسية ودبلوماسية تتعلق مباشرة باختلال التوازنات التي عملت الولايات المتحدة وإسرائيل على إرسائها في المنطقة. قام وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بزيارة لروسيا قبل انعقاد الجولة الاولى من المفاوضات النووية قبل أسبوعين، بينما قام بزيارة الصين قبل أسبوع من انعقاد الجولة الثانية، في رسالة ضمنية مهمة للولايات المتحدة. كما قامت روسيا باعتماد الاتفاق الاستراتيجي مع إيران الذي تم توقيعه مطلع العام الجاري، خلال فترة المفاوضات الحالية، والذي يتضمن تعاوناً عسكرياً، بالإضافة لملفات أخرى، في رسالة ضمنية أخرى من روسيا للولايات المتحدة، وإن لم يتضمن الاتفاق الروسي الإيراني الاستراتيجي اتفاقية دفاع مشترك.

وقد تكون أهم تلك الرسائل الضمنية للولايات المتحدة تلك التي جاءت من السعودية، بعد زيارة وزير الدفاع السعودي لطهران، في زيارة تاريخية، حملت الكثير من المعاني، أهمها أن مخططات الولايات المتحدة وإسرائيل لرسم توازنات المنطقة، وملامح الشرق الأوسط الجديد لم تحقق غاياتها تماماً، بل قد يكون العكس هو الذي تحقق، بعد أن انكشف القناع لدول المنطقة عن وجه إسرائيل الحقيقي.

ويبدو أن السعودية التي تختار اليوم استراتيجية التنويع الاستراتيجي للحلفاء قد كسرت الهيمنة الاميركية في المنطقة أو في طريقها لذلك. فباتت المملكة ترتبط بالصين كأهم شريك تجاري لها، وترتبط بروسيا كحليف أساسي ومهم في تنظيم سرق الطاقة وأسعارها، في إطار تجمع الأوبك بلس. ولا تعد زيارة ترامب المتوقعة منتصف الشهر القادم للسعودية ودول خليجية أخرى، والتي تشكل زيارته الأولى، تماماً كما شكلت زيارة مشابهة اول زيارته الخارجية في عهده السابق، في اشارة لأهمية هذه الدول والمنطقة، إحباطاً لسياسة السعودية، بل قد يكون العكس هو الصحيح. فتأتي زيارة ترامب للمنطقة بذريعة جلب استثمارات بتريليون دولار من السعودية لمدة أربع سنوات، وحوالي تريليون و400 مليار دولار من الإمارات وقطر، للعشر سنوات القادمة. ويصب ذلك في مصلحة دول الخليج أيضاً، في إطار استراتيجية التنويع الاستراتيجي، فتركز استثمارات تلك الدول في الولايات المتحدة على الأسلحة المتقدمة والذكاء الاصطناعي، والابتكارات التكنولوجية الأميركية المتطورة، والتي ترتبط بشكل خاص بطموحات السعودية لرؤيتها الوطنية التنموية لعام ٢٠٣٠.

تشير التطورات السياسية والدبلوماسية المصاحبة للمفاوضات النووية الإيرانية الأميركية أننا نخطو خطوات جريئة باتجاه عالم متغير، لم تعد للولايات المتحدة فيه الهيمنة الكاملة، كما كان ذلك في أعقاب الحرب الباردة وأحداث الحادي عشر من أيلول. ورغم الإنجاز الذي حققته إسرائيل بدعم مطلق من حليفتها الأميركية في حربها المشعبة في المنطقة، والخسارة التي لحقت بإيران نتيجة ذلك التصعيد العسكري الإسرائيلي في المنطقة، لم ترسخ الولايات المتحدة وإسرائيل معادلاتها الاستراتيجية للمنطقة، بل على العكس، باتت هناك معادلات جديدة تفرض نفسها على النظام الإقليمي الحالي، وقد يكون ذلك هو السبب الرئيس الذي جعل ترامب يتريث أمام الرغبة الإسرائيلية بالذهاب لحرب واسعة مع إيران، والتي ستورط الولايات المتحدة أكثر بسياسات ليست في صالحها مع دول المنطقة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.