شتيمة بيضاء!
مقالات

شتيمة بيضاء!

في الوقت الذي تتضاءل فيه مساحة نفوذ السُّلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أمام هجمات المستوطنين بمختلف أشكالها، وتتصاعد حرب الإبادة في قطاع غزّة، أشغل رئيس السُّلطة، محمود عباس، الرّأي العام الفلسطيني والعربي بشتمه للمقاومة في غزّة، إذ وصفهم بـ"أولاد الكلب"!

هذه ليست المرّة الأولى التي يستخدم فيها أبو مازن الشتائم، وليست المرّة الأولى في تاريخ القيادات العربية وغيرها. ولكن يبقى السؤال: لمن وُجّهت؟ وما الغرض منها؟

بلغ الراحل جمال عبد الناصر أنّ الإعلام البريطاني وصفه بالكلب، فردّ جمال خلال خطاب شعبي كبير: "بتقولوا عليّ كلب؟ طبّْ أنتم أولاد ستين كلب". استُقبلت شتيمته بعاصفة شعبية من التّصفيق والهتافات، فقد كانت شتيمة ردّ اعتبار وكرامة في مواجهة الغطرسة والاستعلاء.

أبو مازن بعيدٌ عن قطاع غزّة، ولن يستطيع مغادرة المقاطعة أو دخول غزة من غير مرافقة وموافقة من الاحتلال، ولا يوجد من يهدّد أمنه الشّخصي في الضفة الغربية، ولا أظن بوجود نوايا اعتداء عليه، اللهم إلا إذا قرّر الاحتلال والمستوطنون ذلك لسبب أو لآخر.

الشّتيمة من قائد سياسي هي رسالة، وليست كذبة بيضاء. أبو مازن يقول للاحتلال بصورة مبطّنة، إنّ ضرباته القوية بحقّ المدنيين في قطاع غزّة تأتي بثمارها، رغم تصريحاته التي يعبّر فيها عن ألمه مما يحدث للمدنيين، وبهذا يدعو مؤيّديه في قطاع غزّة إلى أن يصعّدوا الاحتجاجات ضد المقاومة، ويبدو أنّه يشعر باقتراب انهيار المقاومة أو يعتقد ذلك. هي كذلك رسالة للاحتلال ولأميركا ولحكّام الدّول العربية.

كيف تُتَرجم هذه الشتيمة في المحيط العربي؟

رسميًّا، تُتّخذ ذريعة للتخاذل العربي تجاه حصار غزّة وتجويع شعبها، وذلك أنّ القيادة الفلسطينية "الشرعية" نفسها تعلن هذا، وتشتم وتحمّل المسؤولية للمقاومة في كل ما يحدث، وهذا يعني أنّ الفلسطينيين منشقون حتى في أحلك الظروف، وهم المسؤولون عما يحلّ بهم من كوارث.

وهي تمنح الاحتلال غطاءً غير مباشر، بأنّ ضرب المدنيين والمجازر هي بسبب التّمسك برهينة أو بالرّهائن، وأنّه في حال إطلاق سراح الرّهائن ستتوقّف الحرب وفكرة التهجير!

الاحتلال من جانبه يراها فرصة ذهبية لاستغلال تصعيد الانشقاق والتّهم المتبادلة، للإمعان في الضّم والاعتداءات على المواطنين في الضّفة الغربية والقدس، وتوسيع عمليات الهدم والتجريف والمصادرات، وإظهار ضعف السُّلطة وعدم قدرتها على فعل شيء لحماية الناس، والمقصود هنا أنّ نشاطها الدبلوماسي ومناشداتها للعالم بالتحرّك لن تجدي شيئًا، ولن تغيّر من واقع، وليس على الفلسطينيين سوى التسليم بالأمر الواقع وبأنّ الضفة الغربية باتت جزءًا من دولة إسرائيل.

عباس يطالب بتسليم سلاح المقاومة في غزّة للسُّلطة، على غرار طلب الدّولة اللبنانية من حزب الله، بحجة أن هذا سيكفّ شرّ الاحتلال عنهم.

عباس يعرف أنّ تسليمه السّلاح مستحيل، ليس فقط من قبل المقاومة، بل من قبل الاحتلال، فهو يعرف أن سلاح الأمن الوقائي نفسه يمر بعمليات تجميل على يد إسرائيل لجعله عاجزًا عن التعامل إلا لقمع الناس العزّل.

لكنّها إشارة واضحة أخرى على استعداد السّلطة للقمع والقيام بالدور نفسه، ليس فقط في الضّفة الغربية، بل كذلك في قطاع غزّة. طبعًا هذه أحلام يقظة، فالاحتلال تجاوز هذه المرحلة، وبات يفكّر جدّيا ويطبّق التّهجير عمليًّا.

الاحتلال يرقص ويستفيد من أيّ خلافات فلسطينية فلسطينية، أو عربية عربية، وخلافات طائفية أو تنظيمية، ويسعى إلى تصعيدها لأنّها تخدمه.

للاحتلال هدفٌ واحد واضحٌ ويجري تنفيذه على أرض الواقع، لا يلتفت إلى تنازلات عباس ولا إلى شتائمه، وإذا كانت المقاومة هي العدو المسلّح، فإنّه يرى بعباس العدو الدبلوماسي الذي يحاول أن يحصل بالدبلوماسية على ما لم تحققه حماس بالقوّة.

عندما تحين اللحظة المناسبة، ومثلما مُنع رئيس الحكومة الفلسطينية، د. محمد مصطفى، من التجوّل في قرى الضفة الغربية، ومُنع محمود عباس من السّفر بمروحية أردنية إلى دمشق، سوف يُمنح الأمن الوقائي مهلة بضعة أيام أو 48 ساعة لتسليم كل أسلحته، وذلك عندما تنتهي الوظيفة التي أُنيطت به. قد يحدث هذا في حالة اندلاع انتفاضة شعبية كبيرة وفقدان السّلطة للسّيطرة على الجماهير الغاضبة التي ستهبُّ مدافعة عن نفسها وعن أملاكها وعن مجرّد وجودها أمام هجمات المستوطنين المتغوّلة، أو عند قرار الضم النهائي للضفة الغربية.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.