عدت إلى المخيم
مقالات

عدت إلى المخيم

رام الله صيف 1958، أنا الآن هناك أو لأكن أكثر تحديداً، جزء مني هناك، وجزء هنا، بيوت الـ»هناك» قليلة متباعدة عن بعضها البعض، بسيطة وذكية وصديقة للإنسان، غارقة في خضرة طرية، خضرة أليفة أحسستها تنبض في قلبي مثل قلب آخر يجاور قلبي، قادم أنا من ربيع رام الله 2019، الدخول في أزمان الصور ليس بالبساطة التي قد يتصوّرها أي شخص، الـموضوع ليس موضوع مخيلة خصبة، ليس شعراً أو مجازاً أيضاً، ليس استعارة لرغبة عاجزة ومحبطة؛ إنه صنارة نمدّها للزمن الآخر، يسبق ذلك تحضير متعب للتعرف إلى تاريخ ذلك الزمن، تحفيز الـمشاعر، تركيز النظرة، نوع شجاع من الاستعطاف واستنفار قوى الذهن الهامدة، عرق شديد، ألـم في الـمفاصل، انشداد في شرايين الدماغ، وقبل كل ذلك عشق صادق للصورة وانتماء عنيف للـمكان، أنا من مدمني التفرج على الصور، خاصة القديمة منها، في الصور القديمة يتوقّف الزمن؛ هذا التوقّف يهيّج دماغي وإذا حدث وأن أثملتني صورة، كما فعلت بي صورة لجزء من رام الله ملتقطة في العام 58 ومعلقة على حائط مكتبة رام الله العامة، أحياها بطريقة جنونية، يصيبني انفصام مهول، فأعيش الحياتين معاً، حياة زمن الصورة وحياتي الحالية، التحديق في الصور يشبه الصعقة الزمنية؛ أتمزق، أصبح شخصين تعيسين، غير مكتملين، بلا أقل جاهزية وتواصل مع الحياة والناس، بنصف عقل ونصف قلب أتنقّل بين الأزمنة، عمّ أبحث؟ أعن الرائحة الحقيقية للأشياء؟.
مجنون الأزمنة أنا، هناك مجنون وهنا مجنون، كنت أشبه بأبله القرية الضائع في زحمات الـمدينة حين وقفت أمام الشاعر العشريني محمد القيسي، دُهش محمد من وقوفي أمامه فجأةً بالقرب من مكتبة رام الله العامة في ذلك الصيف اللاهب من العام 58، بملابس غريبة وقصّة شعر لـم تحدث بعد، أنا قادم إليك من ربيع رام الله - 2019 يا محمد. قلت له. ابتسم ابن حمده، ابتسامته الزعرة تلك، رأيت يده ترتفع وتمسحني من الشارع أو من وعيه، طردني كما يطرد هاجساً مملاً أو فكرة حمقاء بيده التي ستمتلئ بالوعود والـمعارك والدموع والجنون والشوارع والـمدن والنصوص والنساء والكتب والأوراق، لاحظت آلة تصوير مدلاة من عنقه، راقبته وهو يدخل الـمكتبة وعند الباب رأيته يعانق شاباً ما، هل هو فاروق وادي، أم خليل السواحري؟ سأعود الآن إلى 2019، جدران غرفتي تمتلئ بصور وجوه أصدقاء وأقارب وأدباء ماتوا منذ زمن، خلفهم جزء من بيت أو حديقة أو مبنى أو شارع أو وجوه أخرى أو أثاث، أو أي شيء كان هناك ولـم يعد هنا، انقراض الأشياء في الصور ضروري لهستيريا حنيني.
كيف تغيب عن البال تلك الصور العائلية القديمة التي عثرت عليها في بيت قديم علوي متصدّع بلا سكان يقع فوق بيت صديقي، في ذلك الـمساء الشتوي الهائج؟ تائهاً عن بيت الصديق، دفعت الباب بهدوء فأمسك بيدي ودفعني بحب غريب تجاهه، كأنه ينتظرني، السقف يسيل ماءً من كل مكان، خزانة الـملابس النسائية في مكانها، لكن مفتوحة، الـملابس نصفها في الخزانة ونصفها في الداخل، التلفاز مكسورة شاشته، مقلوب على وجهه، نظارة طبية مرمية على الأرض، مزهريات محطّمة، أوراق ممزّقة، صفحات كالحة من كتب منزوعة الغلاف، أرجل الكراسي متناثرة هنا وهناك، معالق وصحون وسكاكين صدئة، أسرة هابطة وملابس ممزّقة، مذياع مشطور إلى نصفين، الشبابيك مخلوعة معلقة بأنفاس أخيرة، في إطار الجدار، الخزانة الأخرى، ذات الأدراج الكثيرة، يدي تسحب الأدراج، فتنفجر في يدي الصور، صور صور صور، مطر من الصور، بالأبيض والأسود، صور بألبومات، ومنفردة، صور مبروزة، وأخرى بلا برواز، صور شخصية وأخرى جماعية، عائلة سعيدة كانت هذه العائلة، جدة تسعينية، زوج وزوجة وأبناء وزوجات أبناء وأحفاد، وأشخاص آخرون، ضيوف وأقارب، الزمن 1943 والـمدينة هي رام الله، وأنا ابن رام الله 2019. أخذت الصور معي، أقرضت زمنها نصفي، جسداً ومشاعر وأطيافاً، أبقيت النصف الآخر في رام الله الحديثة، رام الله التي تعضّ ضميرها الآن حين تهدم قديمها وتقصف شجرها بحجة تهذيبه. اكتشفت أن الصور ليست وحدها القادرة على اقتلاعي من زمني، والتطويح بي في زمن آخر، كنت قبل أيام في زيارة إلى بيوت قرية «الجانية» القديمة، مع أصدقاء، في كل قرانا ثمّة قرى قديمة، تشبه مخاوف وطن أو رسائل حب أو أجراس تنبيه، تقف على السفوح متعالية فخورة وحزينة هادئة، مكثفة بالصمت، كانت مضيفتنا الزميلة المرحومة (توفيت قبل أسابيع) عطاف يوسف ــ ابنة القرية والـمنتمية باندفاع إلى زمن القرية القديم والعائشة قسماً من طفولتها هناك ــ تمشي أمامنا متخليةً عن شروط عمرها، عائدة رويداً رويداً إلى أطراف طفولتها العميقة الـمزدحمة بالشجر والينابيع، هنا بيت الـمختار، الباب القوسي، قاع البيت، الكوى الصغيرة، السراج الـمعلق الفارغ من الزيت، الخزانة الـملتصقة بالحائط، قوس اللحفة، الخابية، الراوية، الروزنا، السقوف الطينية الـمعشوشبة، هنا في هذه الغرف الصغيرة عاشت أسر كثيرة، كيف تحمّلت هذه الغرفة كل هذه الأنفاس والأحلام والحيوات والأصوات والأجساد والـمطالب؟.
معيار الـمساحة آنذاك لـم يكن هو نفسه معيار زمننا الدبق والأصم والأناني والـمتوتر، الـمساحة في ذلك الزمن كانت تمتد وتتوسع بالـمحبة وهدوء البال وشرف الروح وبساطة العيش والصداقة مع الجبال، والثقة وسلامة النفوس والاحترام، والفراغ الجميل الـمحيط بالبيوت. بلحاف واحد أو اثنين كانت تتغطى أجساد الأسرة الكبيرة، من يطيق هذه الأيام أحداً يشاركه لحافه؟ الآن ننام كل في غرفته «هل حقاً ننام» ومع ذلك نشعر أن كل شيء ضيق ولا نثق ببعضنا البعض والعالـم عدائي وبارد وصغير وقاسٍ.
الراحة الغامضة التي أحسست بها لحظة خروجنا من القرية ما زالت عالقة في رموشي، ما أجمل أن نغسل أرواحنا وندلك قلوبنا بروائح قديمة أصيلة!، تساءلت كثيراً في الطريق لـماذا لا يصطحب سكان مدننا أطفالهم كل جمعة لزيارة البيوت القديمة في قرانا؟ «الفكرة مضحكة أليست كذلك» بدل زيارة الـملاهي ومقاهي النت؟ لـماذا نبقى مع أطفالنا حبيسي الـمدن الواسعة الباردة والـمزيفة والـمحايدة والخرساء والجافة؟ لنغلق جوالاتنا، نخرس الفضائيات والحواسيب في بيوتنا مقطبة الجبين.
نطير إلى بيوت قرانا القديمة، نمارس طيش السياحات الرائع، نجمع الهندباء واللسينة واللوف من الحقول، يركض أطفالنا في الأزقة الضيقة جداً، الواسعة جداً، يشمون عبق النقاء، يذوقون طعم الفراغ الفسيح، يتعرفون إلى جمال الصمت الندي، يقضمون تلذذاً جزءاً من كتف الزمن الجميل الطبيعي. عدت إلى بيتي، عدت إلى الجرح الـمتعاظم لأسكنه وأنام فيه وأكتب فيه هذه الكلـمات: «عدت إلى الـمخيم».
 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.