مغزى وقف المسيرات
قال الخبير العسكري الإسرائيلي، يؤاف ليمور في صحيفة «إسرائيل اليوم»: «بعيداً عن الأسباب الحقيقية التي دفعت حماس لاتخاذ قرار التخفيف من هذه المسيرات، فإننا أمام توجه واضح لديها يقضي برغبتها في تحقيق تسوية بالقطاع، وهي مستعدة للقيام بمزيد من الخطوات من أجل عدم التشويش على خطتها في هذا السياق». وأكد أن «إسرائيل وضعت منذ البداية شرطاً أساسياً للشروع في مفاوضات حول بدء مباحثات التهدئة، وهو وقف المسيرات، لكن يبدو أن حماس هذه المرة هي المعنية بإبداء نوايا جدية في الانتقال بهذه المباحثات خطوة إلى الأمام، ولذلك اتخذت هذه الخطوة اللافتة». وأوضح أنها «ليست البادرة الإيجابية الأولى التي تصل من غزة، ومن الواضح أننا أمام توجه حقيقي لدى حماس بتحقيق التسوية المأمولة»، وأكد أنه «بعد وقف المسيرات، وعدم الانخراط في الاشتباكات المسلحة الأخيرة، بقيت ورقة واحدة قوية بيد حماس، وهي الأسرى الإسرائيليون»، وأشار إلى أن «هناك إجماعاً في المستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين بضرورة التقدم نحو إنجاز تسوية مع حماس... لدينا جدول زمني حساس يجعل من نشوء مصالح بين «حماس» وإسرائيل أمراً قائماً رغم عدائهما المستحكم».
ما يهم في تحليل وعرض الخبير الإسرائيلي هو إشارته «لإجماع المستويين السياسي والعسكري الإسرائيلي على ضرورة إنجاز تسوية مع «حماس». مقابل رغبة «حماس» بتحقيق تسوية وصفها الخبير «بقرار إستراتيجي». الأقوال الإسرائيلية والأفعال الحمساوية كوقف المسيرات ومنع إطلاق الصواريخ المدعمتان بأموال قطرية تشي بوجود رغبة متبادلة لإبرام تسوية بين «الجانبين» - مصطلح الجانب الإسرائيلي استخدم في بدايات أوسلو للانتقال من حالة العداء إلى حالة الاستئناس والشراكة. لا يكفي الحديث عن رغبة متبادلة بمعزل عن مصالح متبادلة. فالمصلحة الإسرائيلية تقضي بتثبيت فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية وبقاء الانقسام الفلسطيني وتعميقه بهدف تقويض مقومات الدولة المستقلة كحل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لا شك في أن الانقسام الجغرافي والديموغرافي وإعلاء الصراع الداخلي على الصراع مع الاحتلال، يدعم المزاعم الإسرائيلية التي تقول، إن الشعب الفلسطيني لا يستطيع تقرير مصيره بنفسه ولا حكم نفسه بنفسه... وبالتالي فإن الحل العملي الوحيد هو الحل المفروض الذي يتضمن أشكالاً متنوعة من الوصاية. ومصلحة إسرائيل في اعتماد سلطة قوية تتولى ضبط مليوني فلسطيني، والحيلولة دون تهديد الأمن الإسرائيلي، خاصة في غلاف غزة، من خلال حظر إطلاق القذائف والصواريخ والبلالين والطائرات الورقية التي تشعل الحرائق، ومنع اختراق الناس للحدود عبر المسيرات. وما يتطلبه ذلك من إعطاء «الشرعية الإسرائيلية» لسلطة «حماس» وتقديم التسهيلات الاقتصادية التي من شأنها الحيلولة دون حدوث انفجارات شعبية على خلفية الخنق الاقتصادي والتجويع.
التسوية بالمفهوم الاستعماري الإسرائيلي سقفها، إعادة تأهيل تنظيم «إرهابي» واستخدامه في السيطرة على شعبه مقابل تأمين الغطاء السياسي لسلطته بمعزل عن التحرر من الاحتلال وعلاقات التبعية والتمييز العنصري. لا يختلف التعامل الإسرائيلي مع المنظمة في تجربة أوسلو من حيث الجوهر، مع التعامل الراهن مع «حماس» إلا من زاوية التنازلات السياسية التي قدمتها المنظمة على «أمل» تحقيق هدف إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة والذي سرعان ما تبخر. الآن جرى شطب العنصر السياسي الذي لا لزوم له في غياب أدنى استعداد إسرائيلي للتوصل إلى حل سياسي متفق عليه. وفي الوقت الذي لا تسعى فيه «حماس» عملياً إلى حل سياسي دائم على أساس قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي، كما فعلت المنظمة، وتكتفي بهدنة طويلة تضمن سيطرتها على الشعب، فإن موقف «حماس» من الحل يتقاطع مع الموقف الإسرائيلي ولكن من مواقع مختلفة. الطرفان لا يريدان تسوية دائمة. لهذا السبب لا تقيم حركة «حماس» وزناً لتقويض مقومات حل الدولة من خلال تسويتها التي تفصل القطاع عن الضفة. يهمها بشكل خاص إدامة سيطرتها على قطاع غزة والتي تظهر معالمها الآن في ما يسمى «اتفاق التهدئة».
ما هو أخطر أن التسوية المزمع إبرامها بين دولة الاحتلال و»حماس» تأتي في سياق مسعى نتنياهو ترامب لتصفية القضية الفلسطينية وتحويلها من قضية تحرر وخلاص من أطول احتلال إلى صفقة تجارية وحلول كاذبة للضائقة الاقتصادية التي يعيشها الشعب الفلسطيني داخل وطنه وفي الشتات.
تسوية «حماس» تتناقض مع برنامجها وخطابها السياسي والإعلامي والديني، وتتناقض مع مشروعها البديل لاتفاق أوسلو، ومع دورها كمعارضة وكحركة مقاومة. لقد اعتمدت كل السبل في تجربة أوسلو وبنت عليها سلباً لتكون النتيجة مأزقاً سياسياً بامتياز أدى إلى مزيد من الإحباط والتفكك واليأس في صفوف الشعب. ولا يغير من هذا الواقع المأساوي التغني بالمقاومة وقدراتها وإنجازاتها، لطالما كان الإنجاز السياسي هو تثبيت فصل قطاع غزة عن الضفة وتثبيت الانقسام وتحويل المقاومة إلى سلطة قامعة ضامنة للأمن والهدوء. يندر أن تلجأ قوة تعتبر نفسها بديلاً للمنظمة واتفاق أوسلو، إلى طرح مشروع فئوي على مقاسها، بدلاً من طرحها مشروعاً للإنقاذ الوطني. وهذا يفسر لماذا لم يُستخدم سلاح المقاومة حتى بالمعنى الرمزي ضد الاستيطان الزاحف وضم القدس واستباحتها، ويفسر الموقف الرخو من صفقة القرن.
وتفسر هيمنة «حماس» على مسيرات العودة والحيلولة دون وضع مهمات داخلية لها إلى جانب مهمة كسر الحصار الإسرائيلي، فقد كانت الحاجة ملحة لتدخل المحتجين في الشأن الداخلي الفلسطيني وطرح قضايا الفساد والانقسام والديمقراطية والعقوبات على بساط البحث. لقد جرى استبدال مشاركة المحتجين المتعاظمة في طرح الحلول للأزمة الداخلية الفلسطينية في القطاع والضفة، باستخدام تلك المشاركة بعد تقنينها، في التوصل إلى اتفاق التهدئة الذي تنقصه الرتوش والإعلان. ولا يغير من تحكم واستئثار حركة «حماس» بمسيرات العودة مشاركة التنظيمات الأخرى في الهيئة القيادية المنظمة لها. تلك المشاركة التي وفرت الغطاء الوطني لتفرّد «حماس» في القرار «ورضيت من الغنيمة بالإياب» كما قال الشاعر امرؤ القيس. في النهاية أوقفت «حماس» مسيرات العودة دون أن تلتفت إلى رأي الشركاء.
السيطرة على الفعل الشعبي واستخدامه وتوظيفه فئوياً هو عنوان المأزق الفلسطيني. السيطرة وقبولها أو التعايش معها هو الذي شل حركة الشعب الفلسطيني وحال دون تدخله في عملية إصلاح وتغيير كما فعلت وتفعل الشعوب العربية في السودان والجزائر والعراق ولبنان وتونس. عندما تستعصي الحلول من فوق وهي مستعصية فعلاً، فإنه لا بديل عن حلول يتدخل فيها الشعب، فإلى متى؟