رسمي أبو علي: لا تشبه هذا النهر
مقالات

رسمي أبو علي: لا تشبه هذا النهر


كان ذلك في صيف 1982 خلال حصار بيروت، تحديداً في 12 آب. كان يوما جنونيا من القصف تواصل بشكل هستيري لأكثر من 12 ساعة، كانت القذائف تنطلق من السماء والبحر والجبال المحيطة بالمدينة، على ما أتذكر وصلت إلى شارع «الحمرا» إثر ليلة طويلة في المطبعة، كنت بحاجة للنوم حيث حصلت على شقة لصديق لبناني بعد قصف البناية التي كنت أسكن فيها في المدينة الرياضية.
في الشارع كان كل شيء يركض، الناس يركضون دون أن يلتفتوا، الغبار والدخان القادم من المناطق المقصوفة للتو يندفع بقوة من كل الزوايا محملاً برائحة البارود والحرائق، السيارات القليلة المهلهلة تعبر مسرعة، دراجات نارية تظهر فجأة وتختفي في الشوارع الفرعية، ثم فجأة وسط كل هذا الجنون المتحرك رجل وحيد يجلس إلى مائدة صغيرة وضعت على رصيف مقهى «المودكا»، أظن أن اسمه كذلك، رجل أمام الواجهة الزجاجية يجلس بهدوء على مقعد برتقالي ويشرب قهوته ويدخن ويتأمل الشارع، خلف الباب يقف نادل بملابس العمل وينظر نحو الشارع بتمهل غريب ويلتفت بين وقت وآخر بآلية متقنة إلى الرجل الجالس، كان ذلك الرجل رسمي أبو علي.
كنت على الرصيف المقابل أحدق في الرجلين والمشهد الغريب الذي كوناه في تلك الظهيرة.
بدا أنهما قد وصلا إلى المشهد من يوم آخر وطقس مختلف، كل شيء كان بالأبيض والأسود باستثناء تلك الزاوية المائدة والمقعد البرتقالي والباب الزجاجي والرجلين، كل شيء كان يندفع بسرعة ويختفي إلا تلك الجماعة الصغيرة احتفظت بهدوئها وألوانها وعاديتها.
أشار لي رسمي من مقعده، لم يكن ممكنا، رغم توتري، إلا أن أتجه إلى المقعد المجاور الذي أشار له، أومأ للنادل المتأهب الذي ذهب ليعد قهوتي.
دون تخطيط دخلت ذلك المشهد، فجأة وجدت نفسي في تلك الزاوية المصبّرة ورأيت الشارع الخائف من مكاني الجديد.
كان كل شيء شاشة وكل الناس صوراً، بينما رسمي ينطلق في حديث عادي عن الشعر، نصائح لشاعر شاب أخرجه من الحرب إلى مقهى على الرصيف، ليدله ربما على أقصر الطرق لكتابة قصيدة جيدة.
قصيدة بسيطة تشبه قصيدته التي كنت أحفظها جيدا:


«لا بد لي من العودة إلى «الفاكهاني»
بين حين وآخر
فلديّ زهور عليّ أن أسقيها
وكتب لأنفض الغبار عنها
وأسطوانات لأستمع إلى صمتها».
أو تلك التي كتبها من أجل المقهى:
«من مقهى «خليل»
إلى «المودكا»
تغيرت الجغرافيا قليلاً
وارتفع سعر فنجان القهوة».
أو ذلك المقطع الذي وضع فيه الحرب ضمن حقيبة أشيائه الصغيرة:
«تلك المرأة
الرصيف
وهذه الحرب
لا أحد
يستطيع سرقة أشيائي الصغيرة».
 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.