قبلنا بما نحن فيه
اليوم، نتمنى أن نغير الواقع الذي نحن فيه ونعيشه ونسينا أو تناسينا أننا صنعنا ما نحن فيه. فقد تركنا الناس كمشاهدين لمشهد دون أي تأثير من قبلهم ولم نستشرهم بما آل إليه الواقع، ونزيد باتهامهم بأنهم لا يعرفون حقيقة الوضع وبالتالي هم لا يفكرون بالصورة الشمولية التي قادت لهذا الواقع!!!!، فبروز موضوع العشائر أكبر مما يستوعبه الرأي العام وكذلك الحال بخصوص إضراب تجار اللحوم على قلب رجل واحد أكبر من أن يستوعبه شخص مثلي تعامل مع قضايا تجارية صناعية أكثر تعقيدا، ولا يختلف الأمر عن حال زواج من هن اقل من 18 عاما!!!!!.
وفجأة، تخرج علينا قطاعات مهنية مختلفة برغبة جامحة بمضاعفة الرواتب في ظل وضع اقتصادي ومالي ضعيف وعرضة للتراجع في ضوء محدودية إمكانيات النمو الاقتصادي وانتشار البطالة والفقر بنسب معلنة وليست مخفية، في الوقت الذي لا نجتهد فيه لدراسة وإعادة تقييم الحد الأدنى للأجور، ولا نعمل على مراجعة نسبة الفائدة على قروض المشاريع الصغير ومتناهية الصغر، ولا نقيم لماذا نربط مساحة البناء برسوم ربط وتوصيل المياه لمشترك جديد ونقرر أن النظام يجب أن يراجع ويصدر من قبل مجلس الوزراء لتعديله.
درسنا وقرأنا وتعلمنا حول قضايا المجتمع الفلسطيني وكان أساتذتنا عناوين عالمية في علم الاجتماع وهم لا زالوا هنا بيننا ومنهم من تبوأ مراكز مهمة ليست بالضرورة حكومية بل في مؤسسات بحثية متخصصة ومراكز تأثير أخرى، واستوعبنا أين يكمن الخطر وأين نكون في حالة من حالات السلم الأهلي والتوازن الطبيعي، علمونا أن التاريخ لا يعيد نفسه إلا لدى المجتمعات الإنسانية الكسولة، ورغم ذلك ها نحن نعيش في مكامن الخطر اجتماعيا ونجتهد ليكون الوضع أفضل ليس افتراضيا عبر منصات التواصل الاجتماعي ولكن على أرض الواقع وبقينا في دائرة ان هناك الكثير مما نجهله!!!!.
تجربتنا جعلتنا على قناعة أن القرارات السيادية الحكومية لا يجوز أن تكون عرضة للاعتراض والتغير، ليس اعتزازا بالنفس و»شوفة حال» بل نتيجة لمنطق علمي جوهره أن تلك القرارات يجب أن تكون محكمة ومدروسة ومدققة ومراعية لمعايير تجعلها أقل عرضة للانتقاد والتغير، وحتى القرارات التي تتم مراجعتها لا تمس جوهر تقدمنا كمجتمع، فقد نقبل بمراجعة تطبيق نظام منع المكاره وجمع النفايات لأنه لا يؤثر سلبيا على واقعنا ولا يؤثر على جودة صناعة القرار الحكومي، ونستطيع أن نراجع قرار تعرفة الربط والتوصيل لخدمات الكهرباء وهذا لا يقلل من هيبة مناعة تلك القرارات.
وعلمتنا التجربة أن ما هو إجماع لدى المجتمع الفلسطيني وجسد في وثيقة إعلان الاستقلال وفي القانون الأساسي وفي الوثائق المتتابعة لا يصح أن ننفيه ونصبح كالسفينة دون شراع تلاطمنا الأمواج، لأن القضايا المنصوص عليها ليست منزلة ولكنها تراعي البيئة الثقافية والقيم للمجتمع الفلسطيني ولا تنفيه.
في البلد، اليوم، نصحو على قصة جديدة تشغل بالنا أياما وأسابيع ويترسخ الشعور أن المرجعيات التي يجب أن تتصدى لهذا الملف تدخلاتها ضعيفة، وان تم نقاشها حول التحدي يكون غالبا الجواب إنشائيا «السنا تحت الاحتلال»، «الم تسمعوا عن المناطق المصنفة قسرا (ج)»، «ألا تستوعبون تراجع المساعدات المالية والاقتصادية الدولية»، بحيث نصبح متهمين ولسنا شركاء في التعاطي مع سبل مجابهة التحدي القائم.
المطلوب، اليوم، التركيز على استخلاص العبر وليس على طريقة ما كانت جدتي تنبه منه «اللي بدو ينظف البيت لا يضع ما جمعه من القمامة تحت السجادة» فقط ليخفيها ولا يزيلها، واستخلاص العبر ضمن معايير علمية معروفة ومعتمدة وأشك أننا استخلصنا العبر من أزمة جامعة بيرزيت، وأزمة نقص الكهرباء، وأزمة المياه في الصيف، وغيرها الكثير الكثير. وجلها يتكرر مرة تلو مرة ونصر على نموذج «تفقد، اجتمع، درس، لجنة مختصة».
بتنا بحاجة للحزم بأن البلد ليس قالب «جاتوه» يتم تقسيمه ليأخذ كل منا قطعة منه ويقول: هذه لي ولا علاقة للبقية به. وقد يذهب خيال البعض باتجاه الانقسام السياسي ولكنني امتلك الجرأة أن أقول إن المقصود خطير يتعلق بانقسام اجتماعي جغرافي ثقافي مهني يتغنى به كل من حصّل خلاله شيئا ليس له.
قد أبدو أعيد وأزيد ولكن لا بد من هذا التأكيد وليس التكرار، في العام 1993 عُقد مؤتمر تربوي متخصص بعنوان «التربية والقيم». وكان المتحدث الرئيسي الدكتور إبراهيم أبو لغد رحمه الله. يومها قال وليس حرفيا، «أخشى ما أخشاه أن نصل الى مرحلة يصبح فيها المجتمع الفلسطيني مجتمعات متباعدة بحيث يصبح لدينا مجتمع الضفة الغربية ومجتمع قطاع غزة ومجتمع الفلسطينيين اللاجئين ومجتمع الفلسطينيين المغتربين وكل يدافع عن ذاته ويعزز ما قام عليه هذا المجتمع وذاك»، لو أن أبو لغد أراد تطوير ما وصل إليه قد يجد أمثلة حية معاشة، اليوم، ولم نقم وزنا لما وصل إليه في تلك الفترة، وقلنا إنها مبالغة أكاديمية نظرية ليس إلا، ووصلنا بوعي أو بعناد لما وصلنا إليه، اليوم، وبات واضحا أن أصحاب كل مهنة يرون انفسهم مجموعة مستقلة، وتجمعات العائلات والحمائل تصر على أنها جزء من اللعبة، والتنظيمات السياسية تعتبر نفسها توجه المجتمع دون بوصلة دقيقة، والبلديات الكبرى تريد أن تبتلع غيرها على قاعدة أنها تمتلك المهنية والأهلية لتكون سيدة هيئات الحكم المحلي.
ولعله من المفيد أن نشجع أي جهد سواء من منظمة التحرير الفلسطينية أو الوزارات أو التنظيمات أو مؤسسات المجتمع الأهلي باتجاه إعادة تقييم اين وصلنا وماذا نريد؟ ولكن ضمن منهجية وأدوات بحثية تقود الى نتيجة ولا ننطلق من عواطف جياشة هدفها المعالجة ولكنها لا تنتج.
يجب أن تتوقف قاعدة «حط راسك بين الروس» ومنها يصبح اللوم موجها لمن انزعج من إضراب اللحامين وإصرارهم على استمرار الشراء من السوق الإسرائيلية وإعلانهم أنهم سبق وأن عملوا طريقا بديلا لقرارات سابقة ففتحوا حظائر للعجول في السوق الإسرائيلية ومن ثم يجلبونها إلى السوق الفلسطينية، والغالبية العظمى تقول، «ما في غيركم هالمجموعة تناقشوا اللحامين خلوها لغيركم واسكتوا!!!!!!!».