الزواج المبكر، والمنطق الغريب
حسب تعريف الأمم المتحدة، واليونيسيف، فإن مَن هم تحت سن 18 سنة يعتبرون أطفالاً، وبناء عليه، لا يسمح لهم بالحصول على رخصة قيادة سيارة، أو استصدار جواز سفر، أو السفر دون مرافق، أو فتح حساب بنكي، أو العمل، ولا يحق لهم الانتخاب، أو الترشح للانتخابات؛ ذلك لأنهم في نظر القانون قاصرون، وغير مؤهلين لاتخاذ قرارات مصيرية، أو تحمل مسؤوليات جسيمة بأنفسهم. وتكافح منظمة العمل الدولية عمالة الأطفال، كما تصدر الأمم المتحدة قوائم سنوية باسم «قوائم العار» تدرج فيها أسماء الدول والمنظمات التي تستخدم الأطفال في أعمال حربية.
مع أن قضية الزواج أخطر وأهم بكثير من القضايا السابقة، إلا أن بعض المجتمعات تتغاضى عن ذلك، وتسمح بتزويج الأطفال في سن مبكرة! وفي تقرير لليونيسيف، فإن حوالى 12 مليون فتاة تحت سن 18 عاماً يتزوجن سنوياً في العالم، الأغلبية الساحقة منهن في دول العالم الثالث.
وأغلبية دول العالم، بما فيها الدول العربية والإسلامية، بدأت تحدد سن الزواج بـ 18 سنة، وفي هذا السياق، أصدرت الحكومة قانوناً يحدد سن الزواج في نفس الإطار. لكن جهات حزبية معينة لم يعجبها ذلك، وحرضت بعض عشائر مدينة الخليل لاستصدار بيان أمهلت فيه السلطة الفلسطينية أسبوعاً لتتراجع عن قرارها منع تزويج القاصرات، وحذرت القضاة من الالتزام بقرار تحديد سن الزواج.
قديماً، كان تزويج الفتيات في سن مبكرة أمراً مقبولاً، فذلك كان منسجماً مع الأرضية المعرفية المحدودة آنذاك، والثقافة الذكورية السائدة، ومتفقاً مع نظرة المجتمعات للأنثى، وللأطفال عموماً.. فكان الرجل يفضل الفتاة الصغيرة، ذلك لأنها أسهل في إخضاعها، والتسري بها.. فهو يريدها للمتعة والخدمة فقط، وألا تجادل ولا تناقش.
في البعد الاجتماعي يسهل على الرجل إخضاع الفتاة الصغيرة لقانون القبيلة، وعلى المستوى الشخصي يسهل عليه إخضاعها لرغباته وتقلباته النفسية والمزاجية (ذلك لأنها ضعيفة، وغير متعلمة)، ومن ناحية ثانية، تلعب الرغبة الجنسية دوراً كبيراً، أحياناً متوارياً، وأحياناً مكشوفاً.
حتى لا نظلم مجتمعاتنا، الكثير من الناس يتعامل مع موضوع الزواج المبكر من باب ستر البنت، وحفظ الأسرة، وتماشياً مع تقاليد مجتمعية مغرقة في القدم، طالما أُحيطت بمبررات اجتماعية ودينية.
والله سبحانه قال في محكم التنزيل «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم موَدةً وَرَحْمَةً»، بمعنى أن الزواج مؤسسة أسرية قائمة على التعاطف والشراكة، وليس للجنس فقط.. وحتى الجنس ما لم يكن بالتراضي والانسجام، وتعبيراً عن رغبة مشتركة، مقترنة بالحب، يكون اغتصاباً، فكيف إذا كانت الزوجة طفلة، وليس لها حق الاعتراض، ولا تفهم الموضوع أصلاً؟
وبالمناسبة، خطورة الزواج المبكر لا تقتصر على الفتيات وحسب، فقد ثبت أنّ أغلب حالات الزواج المبكر (إذا كان الزوجان صغيرين) تنتهي بالطلاق، أو يسودها سوء التفاهم، وبعد فترة قصيرة يبدأ الملل بالتسلل إلى العلاقة الأسرية، وتفتر الرغبة الجنسية، وهنا يبدأ الزوج باشتهاء نساء أخريات، خاصة عندما يتقدم به العمر.. ففي تلك السن المبكرة، وبسبب قلة الخبرة في الحياة، لا يستطيع الطرفان تحمل المسؤوليات الجديدة؛ إذ إنّ مرحلة نضوجهما لا تكون قد اكتملت، ولم تتسع مداركهما ليفهما متطلبات الحياة بشكلٍ صحيح، ما يضعهما أمام العديد من المعيقات النفسية والاجتماعية، وتتعقد المسألة أكثر بعد إنجاب الأطفال، الذين سيكونون الضحية الثانية بعد الزوجين، هذا إذا افترضنا أن عمريهما متقارب، أما إذا كان الفارق العمري بينهما كبيراً (وهذا ما يحدث غالباً) فإن الزوجة تكون هي الضحية الأولى.
ينطوي زواج الطفلات على مخاطر كثيرة، منها حرمان الفتاة من حقها في التعليم، وحرمانها من طفولتها، وسرقة أحلى سنين عمرها، ووضعها دفعة واحدة أمام تحد كبير، يفوق قدراتها الجسدية والنفسية، ويجعلها تحت ضغوطات عصبية وعاطفية. وحسب إحصائيات «اليونيسيف»، تحدث 70 ألف حالة وفاة سنوياً للأمهات اللاتي تزوجن ما بين عمر 15 -19 عاماً، ويزداد خطر وفاة الطفل المولود بنسبة 60% إذا كانت الأم أقل من 18 عاماً، ويكون المولود أكثر عرضة للإصابة بنقص الوزن وسوء التغذية وتأخر النمو البدني والإدراكي.. فضلاً عن عجز الأم القاصر عن تربية أطفالها بشكل سليم (التربية ليست إطعام الأطفال وتنويمهم وكسوتهم).
ومن يتزوجن في سن مبكرة يتعرضن للعنف اللفظي والاعتداء الجسدي والاستغلال أكثر من غيرهن، ويكنَّ أقل سعادة في حياتهن الزوجية وعلاقتهن الجنسية مع أزواجهن، لعدم إدراكهن كيفية مناقشة الأمور الأسرية.
الأب الذي يفاجئ طفلته حين تعود من المدرسة، بعريس، بدلاً من مفاجأتها بدفتر رسم أو علبة ألوان، إنما يريد التخلص منها، كما لو أنها عبء، فلو كان يحبها فعلاً، لاهتم بمستقبلها، وتحصيلها العلمي، وترك لها المجال لتختبر الحياة.. والأم التي تقبل بتزويج طفلتها بحجة أنها تزوجت في هذه السن أيضاً، إنما تكرر مأساتها، وتورث ضعفها، وتعيد إنتاج التخلف والظلم مرة ثانية.
حجة ستر البنت، مقولة متهافتة، فالبنت ليست فضيحة.. وإذا تأخرت في الزواج، فهذا لا يعني أنها ستنحرف.. وحفظ الأسرة يكون بالزواج المكتمل الأركان، أي عندما يكون الطرفان ناضجين وجاهزين لتفهم معنى زواج، وتكوين أسرة.
أحبوا أطفالكم، وعيشوا معهم، ودعوهم ينطلقون في ميادين الحياة الرحبة، ولا تسرقوا منهم طفولتهم.
ولأولئك الغاضبين من تحديد سن الزواج: لدينا ألف قضية أهم.