ملاحظات على المجتمع الفلسطيني الذي نريد؟!
انتظم في مدينة رام الله لقاء مفتوح بدعوة من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بعنوان "المجتمع الفلسطيني الذي نريد". وإن كان هذا الفعل عمل محمود إلا أن هناك ملاحظتان جوهريتان تتعلقان بهذا اللقاء وموضوعه هما: تتعلق الملاحظة الأولى باللحظة التاريخية للقاء وهي هامة من الناحية الشكلانية في إطار الهجوم على قانون رفع الحد الأدنى لسن الزواج للفتيات بثمانية عشر عاما في صيغة هجوم على اتفاقية "سيداو" الموقع عليها من قبل دولة فلسطين عام 2014، أي قبل ستة سنوات، دون أي ضجيج من الأطراف التي برزت مؤخرا لمعارضتها بشكل شعبوي محاولة فرض سيطرتها بالهيمنة على المجال الديني أو فرض سطوته على المجتمع. لكن هذا النقاش، على الرغم من صراحة اللقاء وموثوقية معلوماته، جاء متأخرا سنوات طويلة بعد نشوء السلطة الفلسطينية.
وهنا قد يقول قائل إن هذه النقاشات أو مثلها قد جرت في الأطر الرسمية وجلسات تفاكر غير رسمية بين "النخب" السياسية والثقافية والاجتماعية. لكن من الواضح أنها لم تأثر بشكل أو بآخر على خطاب المنظومة السياسية الرسمية في البلاد أو مواطنيها. وفي ظني التمسك بمقولة أن تأتي متأخرا خيراً من أن لا تأتي لا يمكن القبول بها في كمسألة بناء المجتمع والتأثير على المنظومة القيمية له وتطوير البنى الثقافية بدليل ما أصبحنا عليه من تراجع عميق لما سنأتي عليه في الملاحظة التالية.
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالسؤال ذاته "المجتمع الفلسطيني الذي نريد" بعد أكثر من ثلاثين عاما على اعلان وثيقة الاستقلال التي أجابت عليه صراحة ودون مواربة في نصها " إن دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا فيها يطورون هويتهم الوطنية والثقافية، ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق، وتصان فيها معتقداتهم الدينية والسياسية وكرامتهم الإنسانية، في ظل نظام ديمقراطي برلماني يقوم على أساس حرية الرأي وحرية تكوين الأحزاب ورعاية الأغلبية حقوق الأقلية واحترام الأقلية قرارات الأغلبية، وعلى العدل الاجتماعي والمساواة وعدم التمييز في الحقوق العامة على أساس العرق أو الدين أو اللون أو بين المرأة والرجل، في ظل دستور يؤمن سيادة القانون والقضاء المستقل وعلى أساس الوفاء الكامل لتراث فلسطين الروحي والحضاري في التسامح والتعايش السمح بين الأديان عبر القرون"، وبعد ثمانية عشر عاما على اصدار القانون الأساسي الذي جسدت أحكامه الدستورية، وبخاصة الاحكام الواردة في الباب الثاني منه المتعلق بالحقوق والحريات العامة، هذه الرؤية للمجتمع.
إن السؤال الأكثر توفيقا، في ظني، هو كيف يمكن تطوير الهوية الوطنية والثقافية بما ينسجم مع وثيقة الاستقلال ومنطلقات الثورة الفلسطينية وأهدافها؛ فبالإضافة إلى تصفية الاستعمار في الهدف الأول يأتي إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية... تحفظ للمواطنين حقوقهم الشرعية على أساس العدل والمساواة دون تمييز بسبب العنصر أو الدين أو العقيدة كهدف ثانٍ، وبناء مجتمع تقدمي يضمن حقوق الإنسان ويكفل الحريات العامة لكافة المواطنين كهدف ثالث.
وبالطبع ينتج عن هذا السؤال سؤال جوهري آخر يتعلق بالأدوات "أي العطار" الذي سيحاول اصلاح الفشل الذي راكمته القوى والتنظيمات السياسية الفلسطينية على مدار أكثر من 25 عاما في إدارة الشأن العام "منذ تأسيس السلطة الفلسطينية" فهي التي أوصلت المجتمع إلى هذه الحالة، حتى بات النقاش يعود إلى الأصل كما بدا في عنوان اللقاء "المجتمع الفلسطيني الذي نريد" وليس استكمال البناء أو تعزيزه بأطر وقيم أكثر حداثة. أي أن المشكلة لم تكن في الوثائق والنصوص بقدر ما كان الفشل في الأدوات التي أصر اللقاء على الاستمرار بها مع العلم المسبق بفشلها لأسباب متعددة منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي.
إن مراجعة التاريخ لا يمكن أن تمنح لمن صنعه "نصرا أو فشلا، تقدما أم تخلفاً" فهو في أقل تقدير منحاز لفعله واختياراته، ولبقائه معتليا صهوة التاريخ، منكراً أخطائه وزلاته، ومصرا على نهج ثبت بالدليل القاطع على فشله، ورافضا للتغيير أو الوجوه الجديدة التي تقبض على الجمر أو هي مستقبل البلاد.