لقد وقعنا في الفخ
مقالات

لقد وقعنا في الفخ

بعيداً عن أجواء المناكفات، تعالوا نلقي نظرة نصف حيادية على المشهد، ثم نسأل: من المستهدف إسرائيلياً، غزة، أم الضفة؟ وحتى يبدو السؤال أكثر وضوحاً، يمكننا إعادة صياغته على النحو التالي: هل لإسرائيل مطامح جغرافية في الضفة، أم في غزة؟
حتى دون أن نستعيد ما تقوله إسرائيل عن تاريخها القديم في الضفة، والقدس، فإن السؤال السابق يمكن وصفه بأنه سؤال برسم الإجابة، فغزة لم تكن يوماً إلا عبئاً تبحث له إسرائيل عن مشتري، وليس سراً أنها عرضت غزة على مصر زمن عبد الناصر، والسادات، ثم عرضتها على الرئيس الراحل ياسر عرفات، وجميعهم رفضوا هذا العرض الإسرائيلي.
ليس في غزة ما يغري إسرائيل، وهناك مليوني نسمة، وقطعة أرض صغيرة تنوء بحملهم، ولعلي أستطيع الزعم أن إسرائيل لو استطاعت لوسعت غزة، في اتجاه مصر مثلاً، حتى تخلق منها دولة الفلسطينيين، لولا تنبّه مصر، والذي نخشى عليه هو الآخر، نتيجة ما تتعرض له مصر من الضغوط من أكثر من اتجاه.
إسرائيل تريد الضفة، وهذا أيضاً ليس سراً، لا الآن، ولا منذ عشرات السنين، ولقد عبّرت عن ذلك بوضوح في كل مشاريعها السياسية التي سبق وقدمتها، وبالطبع هي تريد القدس.
أما غزة فكانت تسعى للتخلص من عبئها، فهي مصدر قلق دائم، ومنبع للوطنية الفلسطينية، فكان المطلوب فصلها، وعزلها، وإغراق أهلها بهمومها، ويمكنني الآن أن أقول بوضوح: لقد وقعنا في الفخ.
بشيء من الحيادية، تعالوا نفحص ما حدث عام 2007م.
حماس أطلقت على فعلتها مسمى الحسم العسكري، والأستاذ خالد مشعل وصفه في إحدى خطاباته: أنه يشبه العملية الجراحية التي كان لا بد منها..!
أسئلة بسيطة يمكنها أن توضح الصورة أكثر.
1. هل كانت إسرائيل قادرة على منع ما حدث، فقط بواسطة حماية المقرات الرسمية للسلطة، بالقليل من الطائرات الصغيرة التي تطلقها في سماء غزة، دون أن يكون لها أهداف كبيرة بحجم حماية من تسميتهم حماا س عملاءها..! في غزة؟
2. ولماذا لم تفعل؟
3. وهل كانت حماا س تمارس حسمها في كل من الضفة، وغزة، أم أنها تفعل ذلك في غزة وحسب، وهي تدرك أن الضفة ستبقى في يد السلطة الأقوى هناك، ما يعني الذهاب حتماً في اتجاه فصل غزة؟
النتيجة: وجدت إسرائيل لغزة من يشتريها، سواء كان بوعي، أو بدون وعي، وفُصلت غزة، ومن جديد، وقعنا في الفخ.
الآن، ما الذي تستطيعه غزة؟ بل ما الذي تريده؟
إنها تقاتل فقط من أجل لقمة عيش لن تحصل عليها إلا مغمسة بالمهانة، وتم حشر مقاومتها في الزاوية تحت عنوان مخادع اسمه: تثبيت قواعد الاشتباك، وأقصى أمانيها مطاراً اقتلعت هي حجارته لإعادة استخدامها في أماكن أخرى، وميناء كانت في طريقها إلى الوجود دون كل هذه المعاناة، ومساحة صيد لا تسمن ولا تغني من جوع، وحتى لو حصلت على كل هذا، فلن تقوى على إطعام اهلها، وستظل أسيرة لجوعها، وستظل بحاجة دائماً لأن تقمع رغبة أحرارها في الحياة الكريمة..!
عملياً: تم التخلص من غزة، وتم تحييد منبع الوطنية الكبير، وأُغرق الوطنيون في هموم حياتية يومية، ولم تعد كبريات المؤامرات تثير فيهم حماسة الشعور.

الضفة:
هي الآن تحت مرمى نيران رغبة القضم الإسرائيلية، وفي الحقيقة هي لا تريد قضمها بسكانها، فقضم السكان يعني نهاية الحلم الصهيوني بإنشاء دولة يهودية القومية، هي بوضوح تريد الأرض، والتاريخ، لكن حتماً بدون السكان، فما الذي تنتظره، وهي القادرة عليه عسكرياً؟
إنها فقط تبحث عن اللحظة، والوسيلة المناسبين.
لكن كيف نواجه نحن هذه الرغبة الصهيونية؟
سأذكر هنا خبراً نعرفه منذ زمن، لكني قرأته مرة أخرى قبل قليل على صفحة أحد الأصدقاء.
إن إسرائيل تقوم فعلياً بتسليح المستوطنين في الضفة، والقدس، البالغ عددهم ست مئة ألف مستوطن.
ماذا يعني هذا؟ 
هناك من يعتقد أن المقاومة المسلحة في الضفة قادرة على ردع إسرائيل، ومستوطنيها.
وهناك من يرى أن إسرائيل بحاجة إلى شيء من العنف في الضفة، كي تطلق يد مستوطنيها تحت ذريعة الدفاع عن النفس، لتطرد بواسطتهم من تستطيع من سكان الضفة.
وفي الحقيقة: فأنا أميل إلى الرأي الثاني، فنحن عملياً لم نستطع اقتلاع المستوطنين بواسطة مقاومتنا المسلحة خلال الانتفاضة الأولى، ولا في السنوات الأولى لانتفاضة الأقصى، الذي بلغ فيها النشاط العسكري ذروته، بل اتخذت منه إسرائيل ذريعة لإضعاف السلطة، والتنصل من الاتفاقات، ومن ثم تقطيع أوصال الضفة، وتوسيع الاستيطان.
فما العمل؟
من الصعب أن تقدم إجابة محكمة في هذا السياق، لأننا لا نفكر وحدنا، فعدونا يفكر أيضاً بطريقته، وإن احتاج للعنف فلن يعدم طريقة لدفعنا إليه، وستبدو محاولة منعه خيانة في نظر العاطفيبن.
لكني مع ذلك أرى أن أهم ما يمكننا فعله هناك هو دعم صمود الناس، وجعل حياتهم ممكنة، وهذا بالضبط ما يدعوني دائماً للقول: إن الدعم الحقيقي لفلسطين هو الدعم الذي يعزز صمود أهلها في أرضهم، وليس مجرد الإمدادات العسكرية، والتي مهما تعاظمت فلن تقوى على مواجهة إسرائيل، ناهيك عن هزيمتها، وهذا أيضاً- وبدون لف أو دوران- الذي يدعوني لدعم بقاء السلطة قوية، بوصفها إحدى أدوات تعزيز الصمود، فتجربة غزة بما آلت إليه من بؤس أهلها، ورغبتهم في مغادرة الوطن لا يجب أن تغيب عن بالنا، دون أن يعني هذا الدفاع عن أخطائها بالطبع، ولكن بالتأكيد دون السعي لهدمها، فنحن لا نعرف، ولا نضمن شكل البديل الذي يمكن لإسرائيل أن تخلقه هناك بدلاً عن السلطة، كما أن هذا يُوجب على السلطة أن تقترب أكثر من المواطنين، وأن تحارب مظاهر الفساد هناك، وتقاوم بحث برجوازييها عن مصالحهم الخاصة، حتى لو أسقطوا الوطن كله ثمناً لهذه المصالح.
مطلوب من حماا س أيضاً أن تكف عن زعمها تحرير غزة، وأن تعترف بأنها استدرجت لفصل غزة، وأنها دون أن تدري حققت حلماً إسرائيلياً تاريخياً.
أعرف أن جملتي الأخيرة غير كافية، وغير مدلّل على صحتها، وتفاصيلها في هذا المقال، لكنني أطلت، وعلى العموم، فهناك الكثير يمكن قوله هنا، كما وقد سبق وقلناه مراراً، وتكراراً.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.