رغم كل ذلك، ثمة بارقة أمل
تمر القضية الفلسطينية بأزمة خطيرة، وصارت أبعد عن أي حل عادل، والأسباب وراء ذلك كثيرة، منها: التغيرات العميقة في الخارطة السياسية الإقليمية والدولية، والتي من أهم عناوينها تنامي معسكر اليمين الصهيوني في إسرائيل، وتنامي اليمين الديني والقومي في أمريكا، وتعاظم دور المسيحية الصهيونية، والتي تشكل دعامة مهمة في سياسات "ترامب"، وانحيازه الأعمى لإسرائيل، وهذا يترافق أيضاً مع تنامي اليمين الشعبوي في عموم أوروبا.
هذا يعني أن الموقف الدولي الذي كان باهتاً، ومتواطئاً، سيغدو أكثر تقبلاً لممارسات إسرائيل الإجرامية، وأكثر صمتاً إزاء الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون.
إسرائيلياً، يواصل اليمين الديني والاستيطاني صعوده، في الحكومة والكنيست، وفي الجيش، وفي مؤسسات الدولة، والمجتمع، وقد خنق كل صوت معارض، ولم تعد النخب الحاكمة مضطرة للقبول بأي حل سياسي، وهي مستعدة للتعايش مع حالة اللاحرب واللاسلم واللاحل لأمد طويل، بل إنها تستغل عامل الوقت في التوسع والاستيطان والتهويد، وتنتظر فرصة مواتية لتفريغ الأرض من الفلسطينيين، ربما تنتظر حرباً إقليمية، أو تسعى لافتعال حرب أهلية فلسطينية، لتنفذ حلمها القديم: "الترانسفير الجماعي".
على الصعيد العربي، طرأت تغيرات جذرية في مواقف الشعوب والحكومات والأنظمة العربية، بدءا من سقوط العراق (2003)؛ الحائط الأخير الذي بانهياره بدأ الانهيار العربي الكلي، وصولا للعام 2011، الذي شهد انطلاقة ثورات الربيع العربي، والتي سرعان ما ابتلعتها الثورات المضادة؛ وصار الوضع العربي أسوأ من ذي قبل: حروب أهلية مدمرة في أربع دول (اليمن، سورية، العراق، ليبيا) واضطرابات وقلاقل أمنية في دول أخرى، وهرولة وتطبيع مع إسرائيل، وخضوع غير مبرر لأميركا.. وهذه الانهيارات الكارثية تجري على مستوى الحكومات، والنخب، والمجتمعات.
وهذا يعني أن الفلسطينيين لن يكون بمقدورهم الرهان على الحصان العربي، لا الآن، ولا في الأفق المنظور.
على الصعيد الفلسطيني، ما زال الانقسام يلقي بظلاله الكئيبة على المشهد، ويكبل أي فرصة لإحراز أي تقدم سياسي، أو حتى لفتح نافذة لأي حل، فضلاً عن تراجع قوة وحضور "فتح" وبقية الفصائل الوطنية والإسلامية، وتراجع شعبيتها.. وتكلس النظام السياسي الفلسطيني، وترهله.
وأمام هذه المعطيات الصعبة والمجافية، ومع الإعلان عن صفقة القرن، أعرب كثيرون عن تخوفاتهم من المستقبل، وغمَّ التشاؤم على قلوب آخرين، وهذه المخاوف والتشاؤمات لها مبرراتها، لكن الخطورة أن تتحول إلى مدخل تتسرب منه الهزيمة، فإذا ما استفحلت عقلية الهزيمة، ستكون نهايتنا المدوية.
من تجليات عقلية الهزيمة الدعوة لحل السلطة الوطنية؛ وهو خيار عدمي انتحاري، لأنه يعني ضياع هذا الإنجاز المهم والعودة بالشعب الفلسطيني إلى ما دون نقطة الصفر، وتفتيت الكيانية الفلسطينية إلى ما كانت عليه في الخمسينات، وحل السلطة في هذا الوقت بالذات يعني أنه ليس أمام إسرائيل شريك سياسي، وبالتالي ستعمل على تنفيذ مخططاتها وتحقيق رؤيتها للحل النهائي دون أن يزعجها أحد أو يلومها لائم، وفوق ذلك، سيقود إلى الفوضى الأمنية، وسيسبب انهيار الاقتصاد في الأراضي الفلسطينية، وزيادة معدلات البطالة ونسبة من سينزلون تحت خط الفقر، وما سينتج عن ذلك من تداعيات ستعجز جميع منظمات الأمم المتحدة عن حلها.. والمجتمع الدولي، الذي يراهن عليه البعض في تحمل مسؤولياته، لا يعرف أكثر من تقديم منح وأموال مشروطة.
ما تقدم ذكره، ليست مبررات للاستسلام، بل هي قراءة للواقع بعقلانية، وهذه القراءة تعني ببساطة أن هذه المرحلة (المدى المنظور) ليست مرحلة التحرير، وليست مرحلة انتزاع دولة مستقلة بالشروط الفلسطينية.. في هذه المرحلة يتعذر تحقيق أي انتصار حقيقي، أو إحداث اختراق كبير، وأفضل ما يمكن تحقيقه الآن (وما يجب تحقيقه) هو صمود وثبات الفلسطينيين فوق أرضهم (عدم السماح لأي عمليات تهجير طوعي أو إجباري)، والتمسك بالحلم، وبالحقوق الوطنية، وعدم تقديم تنازلات سياسية جوهرية (أي استخدام قوة الرفض)، ومواصلة الكفاح الشعبي والسياسي والقانوني والإعلامي (أي استخدام القوة الممكنة).. إلى أن تتبدل الظروف، أو يتغير النظام الإقليمي، أو تصحو الجماهير العربية، وتدرك الأنظمة العربية أن مصلحتها تكمن في مقاومة النفوذ الإمبريالي والصهيوني، لا في التطبيع والانبطاح.
ورغم مساوئ الواقع، والصعوبات والضغوط، وحجم التحديات المفروضة، والمخاطر المحدقة؛ إلا أن هنالك ما يدعو للتفاؤل؛ أو على الأقل لعدم الإفراط في التخوف والقلق.. وبالضرورة إسقاط عقلية الهزيمة.
فلو نظرنا لمجمل التاريخ الفلسطيني سنجد أن هذا الوضع ليس بالجديد؛ فقد سبق للفلسطينيين أن واجهوا ظروفا أصعب، ومروا بمراحل أخطر، وكان الناس في كل مرحلة يعتقدون أنها المرحلة الأشد خطرا، وأن النهاية باتت وشيكة.. ومع ذلك، تبين أنها كانت مجرد تخوفات وقلق مشروع.. لكن الفلسطينيين تجاوزوها، ورغم أنها كانت تترك آثارا سلبية، إلا أنه من جهة مقابلة كانت تبنى تراكمات نضالية، تعدل ولو قليلاً من السلبيات.
أمام هذا كله، تبرز الحاجة الملحة أكثر من أي وقت سابق لتبني إستراتيجية فلسطينية شاملة، تعمل على استنهاض كل عناصر القوة الفلسطينية.. وأهمها إنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة الوطنية، والتمسك بوحدانية تمثيل منظمة التحرير، وتفعيلها، والعودة إلى الجماهير.. ومن لديه خلافات سياسية أو أيديولوجية مع السلطة، ليؤجلها قليلاً.. فمواجهة المخاطر الخارجية أسبق في أهميتها من نبش الخلافات الداخلية، مهما كانت ضرورية من وجهة نظر أصحابها.
علينا أن نؤمن بعدالة قضيتنا، وبقدراتنا، وطاقات شعبنا الخلاقة، وأنَّ أمتنا العربية معنا، وهي أمة حية، رغم كل ما أصابها من اعتلال.. وأن نؤمن بأنّ أحرار العالم معنا.. وأن ندرك أن صراعنا طويل وممتد.. وبالصمود والإستراتيجية الذكية نصنع قدرنا.. ونصنع نصرنا.
ولا يعقل أن صراعا تاريخيا مضى عليه أكثر من قرن، وقدمت فيه تضحيات جسام، ونزفت فيها أنهار من الدماء.. صراع عميق وشامل، والأمة العربية في قلب هذا الصراع، مهما بدا لنا غير ذلك، لا يعقل أن ينتهي بجرة قلم، من رئيس معتوه، أو من توصيات سياسي غِـر، عبر خطة أسموها صفقة القرن.
إرادة الشعوب الحية أقوى من الدبابات، وهذه الأرض ستبقى فلسطينية عربية، وستبتلع وتمتص الغزوة الصهيونية كما فعلت مع خمسة وعشرين غازيا من قبل في تاريخها الطويل.
كل ما يلزمنا الآن، جرعة أمل، فاليائسون لا يصنعون نصراً.