الصفقة الأميركية ـ الإسرائيلية وقضية السلام
مقالات

الصفقة الأميركية ـ الإسرائيلية وقضية السلام

ظللت إلى ما قبل خطاب الرئيس الأميركي بلحظات مهتماً بالشكل إذا صحَّ التعبير. كنا نعرفُ جميعاً أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي سيحضر خطاب الرئيس، لكن هل سيصعد معه إلى المنبر ويتحدث بوصفه شريكاً كاملاً، أم سيبقى في القاعة ويتحدث أخيراً مُشيداً ومعظِماً ومستجيباً؟ الذي حدث أنّ نتنياهو شارك الرئيس وقفته وخطابه منذ البداية وإلى النهاية. فهناك صفقة إذن، لأنّ كل صفقة بالمصطلح التجاري إنما تتم بين طرفين، وهما في هذه الحالة الأميركي والإسرائيلي. أما الفلسطيني المفروض أنّ الصفقة يراد إجراؤها معه فهو غائب. لكنْ إذا شئنا الدقة فهو ليس غائباً تماماً، لأنّ الطرفين الأميركي والإسرائيلي يريدان الظهور كأنما يقدمان له عرضاً «لا يمكن ردُّه أو رفضه» لشدة إغرائه بوصفه «آخِر فرصة»، كما قال الرئيس ترمب.
لكن لنتجاوزْ الشكليات ولو لدقائق. الرئيس ترمب يعرض على الفلسطينيين الاعتراف بالأمر الواقع الحالي، الذي عملت عليه إسرائيل منذ عام 1967 على الأقلّ. ولأول مرة جاءت الإدارة الأميركية الحالية فشرعنتْه خلافاً لأمرين: القوانين الدولية ذات الصلة، ودورها بوصفها وسيطاً أو حَكَماً بين الطرفين المتنازعين، تتوافر له في العادة الحيادية والنزاهة، وإذا لم يكن هناك توازُنٌ في القوى؛ فإنّ القرارات الدولية التي تلتزم بها الولايات المتحدة تعدّل الكفة بعض الشيء لصالح قوة التوازُن. ما معنى الأمر الواقع الذي اعترف الأميركيون بكل وقائعه في عهد الإدارة الحالية؟ في البداية كانت هناك عدة قضايا صارت هي موضوع التفاوض: جلاء الاحتلال عن الأراضي التي احتُلّت عام 1967، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. ومسألة ضمانات أمن الدولة العبرية، ومسألة الحدود، ومسألة اللاجئين. وعندما تزايد الاستيطان، أُضيفت المستوطنات إلى قضايا الوضع النهائي. وبمقتضى اتفاق أوسلو عام 1993 جرى إنفاذ جزء من البند الأول، وهو قيام السلطة الفلسطينية على جزء من الأرض المحتلة بشروطٍ كثيرة، وما حصل تقدمٌ ملموسٌ في مسألة القدس، ومسـألة الأمن، ومسألة الحدود، ومسألة اللاجئين، ومسألة المستوطنات. وكان سلاح الفلسطينيين للتصدي على التوالي: حروب التحرير من الخارج، ثم الانتفاضات في الداخل. وعندما اعترفت السلطة الفلسطينية بإسرائيل من ضمن اتفاق أوسلو، ما عاد التحرير المسلح من الخارج أو الداخل سهلاً، وتراجعت حظوظ الانتفاضات الشعبية السلمية لأن العنف الإسرائيلي تجاهها كان يجلب العنف إلى صفوفها. وأخيراً فإنّ الفلسطينيين انقسموا على الاعتراف، وانقسموا استطراداً على إمكان استخدام العنف. وما عاد عند السلطة غير تكتيكين؛ أولهما إيقاف التفاوض ولهدفٍ واحدٍ هو وقف الاستيطان. وثانيهما اللجوء إلى اللجنة الرباعية الدولية التي تشكلت من أجل متابعة إنفاذ «أوسلو». ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين (وكان رائد اتفاق أوسلو الرئيسي إسحق رابين قد اُغتيل عام 1995)، سيطرت حكومات اليمين والمستوطنين في إسرائيل، وهي جميعاً ضد اتفاق أوسلو، وضد مشروع الدولتين سراً وأخيراً علناً. ومن الجهة الفلسطينية ازداد الضعف لأنّ القرار الفلسطيني انقسم بين «فتح» و«حماس»، ولأنّ مشروع السلام نفسه انخفضت شعبيته بين الفلسطينيين أيضاً، بدليل أنه في الانتخابات الحرة التي جرت ضمن أراضي السلطة الفلسطينية عام 2006 فاز خصوم أوسلو بأكثرية 60%، وفازت «فتح» وحلفاؤها بـ40%، وعندما كان ممكناً تشكيل حكومة موحدة مستقرة (كان مثلاً من شروطها اعتراف «حماس» بإسرائيل)، عملت «حماس» انقلاباً استولت بمقتضاه على قطاع غزة عام 2007، وشنّت ولا تزال حروب تحرير على حسابها مع مزايدات هائلة على السلطة الفلسطينية؛ فوقعت السلطة منذ ذلك الحين بين اليمين الاستيطاني الإسرائيلي، واليمين التحريري الإسلامي!
لقد عمل الإسرائيليون خلال السنوات الخمس عشرة الماضية على وجه الخصوص على حسم كل القضايا والمشكلات لصالح حاضر الدولة اليهودية ومستقبلها: زادوا عدد المستوطنات في الضفة الغربية ومن حول القدس زيادة هائلة، وأعادوا الاستيلاء على كل الأمن حتى في منطقة (أ) المفروض أنها خاضعة تماماً للسلطة الفلسطينية، وضمُّوا القدس غربيَّها وشرقيَّها وأعلنوها عاصمة أبدية للدولة، وأعلنوا أخيراً عن عزمهم على تغيير الحدود بضمّ المستوطنات بما يتجاوز السور الواقي، وبضمّ غور الأردن باستثناء مدينة أريحا. وجاء الرئيس ترمب فاعترف لأول مرة بكلّ هذا الأمر الواقع الذي صنعته إسرائيل، وزاد في الطنبور نغمة فاعترف لإسرائيل بضم الجولان السوري! وهكذا لم يبقَ من «أوسلو» شيء باستثناء بعض أجزاء الضفة الخاضعة تماماً للأمن الإسرائيلي، وهي تبلغ نحو 70% من أراضي الضفة إضافةً إلى غزة.
ماذا عرض الأميركيون ونتنياهو على الفلسطينيين؟ أولاً، قال ترمب إن لإسرائيل ثلاثة حقوق أو امتيازات: الحقوق التاريخية، وأنها واحة حرية وديمقراطية واستقرارٍ وسلام في الشرق المضطرب، وأنها ينبغي أن تكون آمنة تماماً، ولن تكون كذلك إلاّ بضمّ الأراضي إضافةً بالطبع إلى السلاح النووي، والجيش المتفوق، والضمان الاستراتيجي الأميركي... والروسي!
أما الفلسطينيون فقد عرض عليهم ترمب «دولة مستقلة قابلة للحياة متواصلة الأجزاء»! وهو مستعد إذا وافقوا على التفاوض حول التفاصيل (العقارية، كما قال نتنياهو، وهو يشير إلى صهر ترمب جاريد كوشنر، وهو خبير عقاري في الأصل!) أن يمنحهم 50 مليار دولار للخروج من الفقر، إذا اجتنبوا العنف والفساد. ما الحاجة إلى الدولة المستقلة إذا كانت المشكلة التي يراد حلُّها ليست سياسية، بل هي مشكلة فقر وفساد وعنف وإدارة سيئة للعقارات؟ المشكلة كثرة الفلسطينيين الذين يبلغ عددهم أكثر من سبعة ملايين بين النهر والبحر، أي أكثر عدداً من يهود الدولة العبرية. ولذلك ينبغي أن «يستقلوا» لكن داخل الأسوار التي تفصلهم عن الإسرائيليين المتفوقين والديمقراطيين والمزدهرين! ومع ذلك فالذي سمع كلمة نتنياهو جيداً، يبدو له أن هناك تفاصيل لا تُعجب نتنياهو مثل وقف الاستيطان 4 سنوات ومثل تجاهُل قصة غور الأردن، ومثل تسويات قضايا اللاجئين، وأن القدس ورغم أنها عاصمة أبدية لإسرائيل ولها السيادة عليها؛ فإنّ الدولة الفلسطينية الموعودة ستقع عاصمتها في بلدة ومخيم شعفاط على حدود القدس الشرقية وفي بعض أحيائها، وأنه ستبقى للأردن علاقة ما بالأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية!
هل تنجح الصفقة؟ لن تنجح، ليس بسبب المقاومة الفلسطينية، وليس لأن المجتمع الدولي لن يوافق عليها، وليس لأنّ العرب والمسلمين يقفون ضدها؛ بل بسبب تفاصيلها الهائلة، والشيطان يكمن في التفاصيل، ولأنّ المستوطنين واليمينيين الآخرين في إسرائيل لن يوافقوا عليها فهم يريدون كل شيء. المهم أن ترمب ونتنياهو يستفيدان منها في الانتخابات. وربما يحصل كوشنر على عمارة في أريحا. أما السلام فهو لإسرائيل دون غيرها: «والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».
 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.