عبد الناصر وبورقيبة شخصيتان في مرحلة عربية
اسمان شكّلا عقلين وصوتين مختلفين في العالم العربي في ستينات القرن الماضي، يستحقان الوقوف عندهما من حيث الرؤية السياسية والفكرية لكل منهما وعمله في داخل بلاده وخارجها.
رغم مرور عقود على وجودهما والتغييرات الهائلة التي شهدها العالم العربي، فإنهما يستحقان العودة إليهما وقراءة شخصية ومشروع كل واحد منهما. الاختلاف في طريق وصول كل من الشخصيتين إلى الحكم له تأثير في التكوين الذاتي، وكذلك مجال الدراسة والتخصص والاطلاع على تجارب العالم، ما أدى إلى خيارات فكرية وسياسية مختلفة.
جمال عبد الناصر الضابط الذي ترعرع في مملكة مصرية تديرها سياسياً أحزاب عبر انتخابات برلمانية، لكن القرار السياسي في يد بريطانيا التي لها قواعد عسكرية على الأرض ومندوب سامٍ يُملي على الملك والحكومة ما يجب أن يصدر من قرارات. خطط عبد الناصر لعمل عسكري أسقط الملكية، وتولى الحكم مجلس عسكري تحت اسم مجلس قيادة الثورة. منذ البداية دخل المجلس في صراعات مع الأحزاب، لكن الخلاف دبَّ تدريجياً داخل المجلس ذاته. لقد غاص عبد الناصر منذ البداية في العمل السري، وتلك تجربة لا تنمحي بالتقادم من الشخصيةِ التي عاشها، فهو يرى المؤامرة في كل شيء، ولا يمكن مواجهتها إلا بمثلها مع حبكة أشد وأقوى. تخلص جمال عبد الناصر من الملك فاروق، ثم من الأحزاب وحركة «الإخوان المسلمين» وهيمن على مجلس قيادة الثورة وفرض صديقه الحميم عبد الحكيم عامر قائداً للجيش، بعد أن رفعه من رتبة الرائد إلى رتبة اللواء، وتخلص تدريجياً من أعضاء المجلس الذين أرادوا الحد من قوته. بعد العدوان الثلاثي ونجاح مشروع عبد الناصر في تأميم قناة السويس أصبح قائداً عربياً عابراً لحدود بلاده بلا منازع، وبتحقيق الوحدة مع سوريا أصبح الحلم حقيقة والأماني إرادة، كما قال المغني.
الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، رجل مدني درس القانون في فرنسا التي كانت لها الوصاية على تونس في مرحلة كان العالم فيها يمر بمرحلة غليان وتحول وحرب. اختار طريق النضال السياسي بقوة الحزب الحر الدستوري التونسي والقوة العمالية وتعبئة الرأي العام المغاربي والعربي. زار ليبيا ومنها إلى مصر وأقام فيها فترة التقى فيها بالقوى السياسية بكل أطيافها وبشباب المغرب العربي الدارسين بمصر. اعتقلته القوات الفرنسية بتونس، وعندما دخلت قوات المحور الألمانية إلى تونس قامت بإخراجه من المعتقل وطلبت منه تأييدها، لكنه رفض قائلاً إنه لا يقبل استبدال احتلال ألماني بآخر فرنسي وإنه يناضل من أجل حرية بلاده من أي وجود أجنبي، وإذا كان الشعب التونسي غير قادر الآن على تحرير بلاده فإنه يفضل أن يبقى تحت الوصاية الفرنسية لأنها تمثل دولة ديمقراطية. كانت قضية بورقيبة الأساسية هي تحرير بلاده، وليست الوصول إلى السلطة، ثم إنه لم ينتهج العمل السري، بل العمل السياسي العلني. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واستعادة فرنسا قوتها السياسية الذاتية، بدأت موجة حركات الاستقلال في الدول الأفريقية التابعة لها، وكان نهج بورقيبة التفاوض مع السلطات الفرنسية عندما قبلت بمراجعة نصوص اتفاقية بوردو، رغم معارضة بعض أطراف تونسية تعمل معه في مواجهة الاحتلال الفرنسي. بعد الاستقلال تمكن الحبيب بورقيبة من إزاحة الباي من السلطة بحركة سياسة محكمة. منهج بورقيبة الذي لم يحد عنه طيلة قيادته للبلاد هو «خذ وطالب».
بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا والهبة الشعبية في لبنان الداعمة للوحدة وانقلاب عبد الكريم قاسم في العراق، سادت موجة من «الانشداد» العربي لشخصية جمال عبد الناصر وتكريسه زعيماً وحيداً للأمة العربية، وخاصة بعد معركة بناء السد العالي. الحبيب بورقيبة كان يرى أن مشروع الوحدة العربية غير واقعي وغير عملي، وصرح مراراً بأن العرب لم تكن لهم يوماً دولة واحدة عبر التاريخ، وعلى كل دولة عربية أن تهتم بالتنمية، وخاصة التعليم والصحة، وكرر دائماً أن المهمة الأساسية هي الاهتمام بالعقول والأدمغة وترقية البشر وتجاوز المكونات الجهوية والقبلية، والتي تسمى في تونس بالعروش، وكذلك تحرير المرأة وتعليمها، لأنها الأساس في خلق جيل جديد، وعارض بقوة معاداة الدول الكبرى، لأننا لا نمتلك القدرة على مواجهتها. كان عبد الناصر يمتلك القوة الإعلامية، وكذلك الثقافية، وكذلك الثقل السياسي والبشري، وبمنظومته الإعلامية الهائلة نجح في تعبئة الرأي العام العربي، في حين كانت الإمكانات التونسية محدودة جداً، بالإضافة إلى أن بورقيبة لم يهدف يوماً إلى عبور حدود بلاده إعلامياً أو فكرياً، كان مشروعه تونسياً فقط. سنة 1965 زار بورقيبة القاهرة، واستقبله الرئيس جمال عبد الناصر استقبالاً حافلاً، تحدث الرئيسان مطولاً حول القضية الفلسطينية، وأبلغ بورقيبة عبد الناصر أنه ذاهب إلى الضفة الغربية، وسيتحدث عن العودة إلى قرار تقسيم فلسطين الذي أصدرته الأمم المتحدة اهتداء بمنهجه القائم على مبدأ «خذ وطالب»، لكن عندما ألقى بورقيبة خطابه في مدينة أريحا بالضفة الغربية، قابلته الجماهير الفلسطينية بالطماطم والبيض الفاسد وهتفت ضده. شنّ الإعلام المصري هجوماً حاداً عليه ووصفه بالخيانة والعمالة، ودعت مصر إلى اجتماع بالجامعة العربية للرد على موقف بورقيبة، وقام السيد الطيب السحباني مبعوث الرئيس بورقيبة بمرافعة طويلة قدم فيها رؤية تونس للقضية الفلسطينية، وأن ما لا يدرك كله لا يترك جلّه، ولنأخذ ما نستطيع الآن ونطالب بالمزيد في المستقبل. وسائل الإعلام السورية شنت حملة نارية ضد بورقيبة ووصفته بالخارج عن الملة، وردّ عليها الحبيب بورقيبة ساخراً بقوله: «يعني أنا الحبيب بورقيبة كافر، وسي ميشيل عفلق هو شيخ الإسلام». ارتفعت حدة السجال السياسي والإعلامي بين الجانبين.
في تلك الحقبة العربية والعالمية الحساسة، غاب منطق الحوار السياسي وتشخيص الواقع واجتراح الحلول المتاحة والعمل العربي الموحد بعيداً عن التنابز بالتهم. كانت إسرائيل على الجانب الآخر تعمق تحالفاتها مع القوى الدولية، وترفع قدراتها العسكرية بتقنية متقدمة، وغرق العرب في بحر المعارك الإعلامية التي تذكيها شعارات المزايدة والعداوة. تلك حقبة خلت، لكن قراءتها اليوم تحفز العقل السياسي لاجتراح منهج في التفكير السياسي، يرتكز على التشاور الموضوعي حول أمهات القضايا العربية. ماذا لو تم مزج الرؤية الناصرية الطموحة والرؤية البورقيبية الواقعية عندئذ؟
أوروبا مرت بمرحلة أكثر تعقيداً؛ حروب طويلة مع خلافات واختلافات عرقية ودينية وآيديولوجية، وبَنَتْ كياناً سياسياً واقتصادياً على أسس واقعية. الجغرافيا والتاريخ واللغة والدين لها تأثير لا يتوقف على العقول، وتصب إفرازاتها على صيرورة الحياة. القدرة على توظيف ذلك هو السؤال الذي لا يغيب.