نحو تعزيز الصمود
كلّما وقعت الواقعة وباتت هناك مواجهة اقتصادية، نذهب باتجاه ذات النقاش الذي يستمر ساعات وينتهي لنعود حيث كنا. فجأة نظن أنفسنا أننا اكتشفنا اكتشافاً جديداً مفاده أن القطاع الزراعي قد تراجع ودُمّر ولا يأخذ مساحة مناسبة في الناتج المحلي الإجمالي ولا حصته المناسبة من الموازنة، ونرسم له منحنى بيانياً لنقول كيف كان في الثمانينيات وأين وصل اليوم.
ونمارس ذات موهبة الاكتشاف، بأن المهم هو أن يحافظ المنتج الفلسطيني على جودته بحيث لا تتكرر تجربة الانتفاضة الأولى، ونسترسل: ويجب أن يوازي الإسرائيلي في جودته، وكأن معيار الجودة فقط الإسرائيلي... نظرية أثبتت عقمها، ونحرص كي نبدو موضوعين بالقول: يجب أن تكون المواد الخام فلسطينية وكأن هناك صناعة في الكرة الأرضية مواد خامها من ذات البلد! ومن ثم نكتشف أن نمط الاستهلاك يجب أن يتغير لأن الشعوب الساعية لحريتها لا يليق بها نمط الاستهلاك الذي نعيش.
لا أشكك بنوايا المختصين والعاملين في الميدان إذا طرحوا هذه القضايا، ولكنني أقصد بشكل مباشر أولئك الذين يستخدمون هذه القضايا من أجل ضرب صمودنا والحفاظ على الوضع القائم؛ حتى يظلوا هم الأساس، وأقصد أولئك الذين لا يهتمون بالشأن العام ويطلون علينا فجأة كلما قلنا بدعم القطاع الزراعي، والمنتجات الفلسطينية... أن هذا الأمر غير مجد ولا ينفع الأمر باتجاه المنتجات ولا الزراعة، ولسان حالهم يقول: تعظيم صادراتنا للسوق الإسرائيلي وبالتالي تعظيم وارداتنا من ذات السوق؛ لأنها تقوم على دفعات آجلة بعكس الاستيراد من العالم! وأعتقد أن الحديث معهم هو جدل لا نتيجة له؛ لأنهم متخندقون حول هذه الفكرة للأسف ولا يتزحزحون.
اقتصاد الصمود وتعزيز الصمود نمتلك فيهما عناصر قوة من خلالها نستطيع مواجهة التحدي إذا عززنا الإنتاج ورشّدنا الاستهلاك بحيث نأكل ممّا نزرع ونلبس ممّا نصنع، وهذا ينسحب على تعزيز المنتجات الفلسطينية، وتعزيز الزراعة في الوطن التي اكتشفنا، عندما منع الاحتلال خضارنا من التسويق في السوق الإسرائيلي، أننا ننتج كميات مهولة من قبل مزارعي فلسطين وأن لدينا فائض إنتاج، ولذلك بات لدينا اليوم زيادة في العرض، فما بالكم إذا كانت طوباس تنتج 12 ألف طن خيار للمخلل، وأنواع الخضار الأخرى بذات النسب، وباتوا يزرعون ما يحقق لهم ربحاً وسعراً مناسبَين ولا يزرعون لمجرد أنهم يريدون أن يزرعوا.
اليوم، بات ملحاً التأكيد على تعزيز الصمود من خلال تخفيض نسب البطالة وإيجاد فرص العمل، ليس شعاراتياً وخطابياً بل واقعياً على الأرض، وكذلك ينسحب الأمر على الفقر والنمو الاقتصادي، فاليوم صار النقاش واضحاً حول تنفيذ الحد الأدنى للأجور وإعادة مراجعته ليتناسب مع الوضع الاقتصادي؛ إذ لم يعد منطقياً أن يكون سلّم الرواتب في البلد مختلاً، بمعنى أن تستحوذ نسبة بسيطة جداً على الرواتب الأعلى والدخل الأعلى، بينما الغالبية العظمى لا تنال الحد الأدنى للرواتب وآخرون لا يجدون راتباً منتظماً، ولن يستقيم تعزيز الصمود عندما تستطيع النقابات المهنية أن تضغط لجعل الزيادة في الرواتب لمنتسبيها تصل إلى 200% في حين أن بعض خريجي هذه المهن لا يجدون وظائف ولا فرصاً، هذا إذا أخذنا بالحسبان العوائق التي باتت توضع أمام أصحاب المهنة فتمنعهم من الالتحاق بنقاباتهم من خلال ابتكارات تتجاوز الشهادة الجامعية بشكل غير مسبوق.
يجب أن يكون واضحاً أن الصمود والثبات على الأرض ليسا تعبيراً عن نرفزة أو غضب أو رغبة، بل يتأتيان من خلال سياسات واضحة المعالم، دون أن نظن أننا بدأنا اليوم ونلقي خلفنا سنوات طويلة مضت قد لا نكون أحسنا صنعاً خلالها، أو أن نكون اعتقدنا أننا أحسنا صنعاً ولكن لم نصل للنتيجة التي نريدها بالأساس.
تعزيز الصمود لا يستقيم والمكلفون بدفع الضرائب ورسوم البلديات وضريبة الأملاك ينتابهم شعور بأنهم هم الوحيدون الذين وقعوا، وبأن الذين يتهربون من الضرائب والرسوم أكثر حظاً في الحياة رغم أنهم يعيشون تحت ذات الظروف والأوضاع الاقتصادية والمعيشية. لماذا لا نعزز لدى المواطن ثقافة الالتزام، خصوصاً المكلفين العدالة في الإجراءات وأن يتم استخدام ذات المسطرة.
لن يكون الصمود متاحاً حين يكون لدينا من يستقوي على الناس البسطاء لفرض عدادات المياه مسبقة الدفع وسياسة الدفع المسبق برمتها، وحين لن نتمكن من حوكمة شركات الخدمات الأساسية التي تلامس حياة المواطن، ما يضطر مواطنين إلى احتجاجات متواصلة لتحقيق خدمات أساسية محوكمة وعادلة وضمن تعرفة واضحة.
فصل تبعية الاقتصاد الفلسطيني عن الاقتصاد الإسرائيلي بحاجة إلى صلابة داخلية في الوطن، تعزز هذا الفصل بتعزيز الاعتماد على الذات واستخدام كل مكامن القوة الموجودة لدينا بالأساس، وتحقيق العدالة التي أتينا على بعض مكوناتها، وأن يشعر الجميع بأننا في مركب واحد لا يفكر أي كان بأن يخرقه من خلال سلوكيات تضرب الصمود وتستقوي بالانتماء الجغرافي المناطقي، أو سياسياً أو عضلياً، وهذا يتطلب تحقيق سيادة القانون واستقلالية القضاء، ونزاهة الإجراءات في التعاطي مع شؤون الناس من البلدية إلى الوزارة فالشركة الخاصة.