تجميل وجه النمر الميت
كم هو أمر يدعو للتأمل، ذلك الانقلاب بموقف الأصوات المتحمسة للدفاع عن النظام الإيراني. فقبل تناثر جسد قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني على طريق مطار بغداد، كانت الرواية الرائجة والمرسلة باستمرار على بريد البيت الأبيض هي أن النظام قوي ويجب التصالح معه ومهادنته. أحد «البروباغندست» قال إن محاصرته شبيهة بمحاصرة النمر الشرس، ورأى أن استيلاءه على الناقلات وإسقاط المسيّرات وضرب مخازن النفط، هي ردات فعل طبيعية على خنقه ومضايقته. وقد رأينا أن تصرفات المسؤولين الإيرانيين معتدة بذاتها ومقتنعة بهذه الدعايات والشعارات الرخيصة.
الآن ومع تراجع دعوات الانتقام لمقتل سليماني تغيرت الرواية القديمة، واستبدلت بها رواية أخرى تماماً، ولكن لتحقيق ذات الهدف. إنها تعمل جاهدة لإقناع الإدارة الأميركية والقوى الدولية المؤثرة أن إيران ليست ضعيفة كما نعتقد. لكن يدرك الإيرانيون قبل غيرهم أن أسطورة النمر المحاصر قد تحطمت بلا رجعة. وقام «الحرس الثوري» بإسقاط الطائرة الأوكرانية المدنية مبدداً أصغر الشكوك حول هذا الأمر. كل ما يفعله المدافعون عنها هو مخادعتنا وإقناعنا بأن النمر الميت ما زال على قيد الحياة بوضع لمسات من الماكياج على وجهه لإيهام المجتمع الدولي بوزنه الإقليمي للتفاوض معه. ويمكن أن نرى بجلاء 3 مسارات مكررة في هذا الاتجاه...
المسار الأول؛ تعبر عنه كتابات ومواقف مكررة تؤكد فكرة أن إيران تملك أدوات القوة وليست ضعيفة كما نتخيل. فقد أشار الباحث ولي نصر الذي عارض موقف الإدارة الأميركية من الانسحاب من الاتفاق النووي وفرض العقوبات بمقاله «المسار الخاطئ بمواجهة إيران»، إلى أن الشرق الأوسط عالم متقلب، وسيجد ترمب نفسه بمواجهة إيران وحيداً بعد أن تتخلى عنه دول المنطقة. لا شك أنها حجة مغالطة تماماً وفي غير وقتها، فما نراه منذ شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي ليس فقط رفض بعض الحكومات في المنطقة للنفوذ الإيراني، بل أيضاً الشعوب في العراق ولبنان التي كانت إيران تدعي سابقاً أن المجتمعات الشيعية فيها تابعة بشكل كامل لها، حيث نسمع الهتافات المطالبة بطرد إيران تتردد على أوسع نطاق وتحرق قنصلياتها في البصرة والنجف وهي ذات الأماكن التي تم التسويق لها سابقاً أنها جيوب إيرانية. وعندما قتل سليماني خرج المحتفلون في بغداد ومزقت صوره ووزعت في سوريا (حتى داخل إيران) الحلوى، ولم يستسلم اللبنانيون حتى هذا اليوم لتهديدات قائد «حزب الله» على أمل استعادة وطنهم.
وتشير حجة أخرى إلى أن الدول تقسمت بعدما فقدت الهوية العربية، وحلت مكانها المصلحة القومية، وهذا دليل على انقسامها، ما جعلها تدخل في صراعات فيما بينها، مدللاً بذلك على الأزمة القطرية. الرسالة لترمب واضحة، الدول العربية ممزقة لا يمكن الاعتماد عليها. لكنها حجة خاطئة مرة أخرى، لأن مقاطعة الدوحة ليست بسبب بحثها عن مصالحها القومية الخاصة، بل بسبب ارتباطاتها المثيرة للقلاقل مع الأنظمة المارقة، مثل النظام الإيراني والمنظمات المتطرفة. القول إنه ليست هناك هوية عربية شاملة يمكن البناء عليها لمكافحة التدخلات الخارجية حجة لا يمكن الوثوق بها، لكن المؤكد والمهم أن الشعوب المنتفضة الآن مؤمنة بأسباب تختلط فيها الدواعي الوطنية والقومية والاقتصادية، ومتوحدة في رؤيتها برفض التدخلات الإيرانية والحكومات والميليشيات التي زرعتها، وترى أنها السبب خلف تردي مستوى حياتها، وتطالب بالخلاص منها.
المسار الثاني؛ من خلال محاولة تحطيم وتخويف الشخصيات في إدارة الرئيس ترمب المصممة على معاقبة النظام الإيراني على كل انتهاكاته خلال عقود. وأبرز هذه الشخصيات وزير الخارجية مايك بومبيو، فقد كتب ديفيد إغناتيوس في «الواشنطن» مقالاً تحريضياً بحق الوزير بحجة تعامله «الفظّ» مع صحافية تعمل في إذاعة NPR. ومن يقرأ المقال حرفياً يرى فيه دفاعاً نبيلاً عن مذيعة لأنها تلقت معاملة غير لائقة كما تدعي (الوزير يكذبها)، لكن الهدف الحقيقي هو الهجوم على بومبيو نفسه من أجل الإطاحة به. بومبيو هو العقل المفكر فيما يخص نظام الملالي ويتحدث بحماسة وإيمان عميقين حول أهمية التخلص منه. هجوم إغناتيوس يهدف إلى تخويف بومبيو لدفعه إلى مدّ يده في النهاية لمصافحة إيران، وإلا تلطيخ صورته وتهديد طموحه السياسي، أو - وهذا الخيار الثالث - تصويره أنه عقبة في طريق التنازل لإيران وتحويله إلى عبء على أكتاف الرئيس الأميركي حتى يضطر يوماً ما لإزاحته لعقد صفقة مع خامنئي. وترى هذه الطائفة من المحللين أن خروج جون بولتون مدحوراً، كأحد الصقور المعادية لطهران، فرصة قابلة للتكرار مرة أخرى.
الاتجاه الثالث هو محاولة إسقاط حلفاء الولايات المتحدة من أجل فتح الطريق لطهران في المنطقة، وشهدنا مشاركات ومقالات في هذا الاتجاه؛ حيث نُشر في صحيفة «الواشنطن بوست» مقال بعنوان «السعودية وأميركا لم تكونا أبداً حليفتين»، ومقال في معهد «بروكينغز» بعنوان «العلاقات السعودية الأميركية بحاجة لإعادة التفكير». نشرُ هذه المقالات في هذا التوقيت يحمل الدلالة الواضحة التي يفكرون فيها. محاولة واضحة للتمويه والتغطية على حالة الضعف الإيراني من خلال تلطيخ صورة القوة الأخرى المجابهة لها في المنطقة وتصويرها أنها مصدر الشر. استغلال لحظات الارتباك الإقليمي بتقديم رؤية جديدة مغايرة تماماً عن الواقع، ذلك من أجل منح جرعة من الحياة للنظام الإيراني، لترميم صورته من جديد. وبعد قراءة هذه المقالات ومتابعة هذه المقالات لا يمكن تسجيل ملاحظات منطقية للرد عليها ومجادلتها، فهي تتجاهل بشكل كامل سلوك النظام الإيراني الداعم للميليشيات والمنظمات الإرهابية السنية والشيعية، وتتجاهل مطالبات الشعوب العربية للتخلص منه، وتعده الحليف المثالي للولايات المتحدة. محاولة علنية لتسويقه من جديد. بالإمكان تجميل وجه النمر الميت، لكن من المستحيل إعادته للحياة من جديد.