لو كنت فلسطينياً
مقالات

لو كنت فلسطينياً

قريبة لنا أصابتها أمغاص أثناء الحمل، ذهبت إلى الطبيب فشخصها بميكروب في الكبد، وطلب منهم أن يطعموها بعض الحلوى لتعويض نقص امتصاص السكر.
الأقارب لم يكذبوا خبراً: أطعموها «كريم كرمل» أكثر من المعتاد.
التشخيص الخاطئ نوعان، كلاهما مضر. الأول يتشكك عن السبب الحقيقي للمرض، فتقضي الوقت في علاج مرض لم يصبك، بينما تترك المرض الحقيقي يتمدد. هذا النوع من التشخيص الخاطئ مصيبة. النوع الثاني كارثة؛ حيث يعطيك تشخيصاً معاكساً لا يكتفي بإهمال المرض والغفلة عنه؛ بل يعمق المرض الأصلي.
هذا شائع في التشخيص السياسي أيضاً. نحن نشخص أمراضنا السياسية تشخيصاً خاطئاً، فنعالجها بما يزيد الغفلة عنها، أو يعمق أسبابها بدلاً من إزالتها. وفي كثير من الأحيان نتلقى التشخيصات من خصوم يعلنون خصومتهم لنا مكشوفة.
المدخل المفضل لترويج هذه الوصفات الخاطئة استخدام عبارة «ثوابت الأمة»، وهي عبارة تشير إلى الوصفات القديمة التي كانت مستخدمة قبل قرون، ولم يطرأ عليها التطوير الذي طرأ على طرق العلاج. ثوابت الأمة في السياسة يقابلها في الطب زيت «قنديل أم هاشم» الذي طالما استُخدم لإبراء عيون مريضة، فأعماها.
والأدل على سوء النية من بعض المدافعين عن «ثوابت الأمة»، أنهم يعفون منها أصدقاءهم. تجد إخوان العثمانيين مثلاً يروجون لك بعض الثوابت السياسية والاجتماعية التي يعفون منها تركيا إعفاء أبدياً. ثوابت تندرج تحت عبارات الولاء والبراء، أو المحافظة على أخلاقنا من السياح الغرباء، أو تقسيم مواطني البلد درجات؛ لأنه لا يتساوى المؤمن والكافر.
إن كانت لدينا أزمة اقتصادية، فإجراءات كتلك تعمقها، بينما يدعي مروجوها أنها ستزيد البركة. إن أرَّقنا تكدير السلم الأهلي فأفكار كتلك تزيده تكديراً. وإن شكونا من ضعف تأثيرنا السياسي في العالم فالنظر إلى التحالفات والعداوات بهذا الشكل يقضي على التأثير من أصله، ويستعدي عليك المزيد.
قريبتنا - اكتشفنا لاحقاً - كانت مصابة بآلام في الجانب الأيمن من البطن، وتحت الضلوع، ليس بسبب التهاب في الكبد، هذه مجرد أعراض متداخلة؛ بل بسبب تسمم الحمل الذي تطور بسبب إصابتها الكامنة بمرض السكري. التشخيص الخاطئ هنا مع الكميات الإضافية من السكر زاد العلة سوءاً، وأدى إلى إجهاض الجنين، والتحذير من خطورة الحمل التالي.
قضية فلسطين ظلمها التشخيص الخاطئ، وظلمتها ثوابت الأمة في العلاج. تحويلها إلى معركة دينية كان كفيلاً بتقوية حجة إسرائيل التي يدعمها الكتاب الديني الأكثر انتشاراً في العالم. وهو الكتاب الذي لا يزال يشكل الجزء الأكبر من الانطباع التاريخي لدى العالم الغربي.
بهذا الخيار لتصنيف الصراع اختار الفلسطينيون أن يتحدُّوا تايسون في الملاكمة، بدلاً من استدراجه إلى تحدٍّ لا يتفوق فيه.
لو كنت فلسطينياً لكانت الأولوية عندي تثبيت وجودي على بقعة من الأرض داخل الحدود التاريخية. لكان هدفي المرحلي أن يعرف أبنائي أن في الحياة حياة، مجالات متعددة يمكن أن تجعل حياتك كريمة، وأن الحياة الكريمة لا تقتصر فقط على معنى «المقاومة المسلحة» والتضحية بالنفس، أن الحقيقة الوحيدة في الصراع أنهم ولدوا في أرض متنازع عليها. وهذا تصنيف في صفهم، لن تجد في العالم الناطق بلغة غير العربية من يمنح الفلسطينيين أكثر منه. وعليهم أن ينطلقوا في نظرتهم للموضوع من هذه النقطة.
لو كنت فلسطينياً لتفهمت من ملاحظاتي العامة، ولكن أيضاً من تاريخي الخاص، أن دعم الشعوب الأخرى الصديقة والشقيقة دعم مشروط بألا ينقلب وبالاً عليها. وإلا كان «أيلول الأسود»، وكانت الحرب الأهلية اللبنانية، وغيرهما.
لو كنت فلسطينياً لأدركت ما لا مفر منه: أن كثيراً من الدول في المنطقة - رغم تأييدها لحقوق الفلسطينيين، إلا أنها تواجه أخطاراً وجودية قادمة من أناس عقائديين، مدفوعين بمعتقداتهم إلى التحكم في مصائر من حولهم، وأن خطراً أكبر قادم من تركيا وإيران و»الجهاديين»، وللأسف، بعض من قيادات فلسطين اختاروا أن يكونوا في صف هؤلاء.
لو كنت فلسطينياً لتفهمت أن لا شيء مخجل في التشخيص المنطقي. لا ينبغي على الطبيب أن يخجل من الاعتراف بأنه مضطر إلى قرار جراحي صعب، قد يصل إلى بتر جزء من الجسد.
هذه هي الحياة ضمن حقيقتها، لا بدع من الأمر. لا معايرة أيضاً في اللجوء إلى جبيرة تحد الحركة وتقيدها، لعلاج عظام مكسورة. ستنصلح العظام وسأصير أحسن.
نعم، إسرائيل دولة قوية، وهذا أحد أهم أسباب السلام. لا خجل من هذا أيضاً. الصراع خلق أحوالاً أسوأ من جيل إلى جيل. والفلسطينيون يحتاجون إلى شم النفس، إلى العودة إلى الاهتمام بمفردات الحياة اليومية، إلى صناعة حواضر تشرق فتجذب، إلى إثبات أنهم قادرون على العيش في سلام.
كل هذا يبدأ من حكمهم لأنفسهم، فوق بقعة من الأرض، بطريقة رشيدة. هذا هو التحدي الكبير. لا شيء آخر. هذا هو المرض الناخر، أكثر من سواه.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.