قـصـائـد مـتـعـثـرة
مقالات

قـصـائـد مـتـعـثـرة

جالسٌ أنا بينهم، جالسٌ منذ ساعتين بقميصي الأبيض، قصائدي المتعثرة، بلاهة نظرتي، كانوا يتحدثون، أحياناً يضحكون، بجانبي فتاة لا أعرف من هي، لكنها تبدو وكأنها تعرفني، خلفي نافذةٌ واسعة مشرعة لنسمات مساء موحِش، لم أكن اسمع شيئاً، كنت أشعرُ بطنين ذباب ينفجر في داخلي على دفعاتٍ يتركني نهباً للشظايا، كانوا يتحدثون، كنت أرى شفاههم تلوك الكلمات بقسوة غريبة ثم تبصقها ابتسامات وهمسات جانبية، ثمة نشوة ما تتراقص في عيونهم، أياديهم تتحرك أمام وجوههم، الفتاةُ تصغي باهتمام، تهزُّ رأسها، تتهيأ للحوار، جالسٌ أنا بينهم، لا أتذكرُ كيف جئتُ إلى هذا المكان، مَن هؤلاء الأشخاص؟ ما علاقتي بهم؟
 الفتاةُ في لحظة ضجيج تميل عليَّ قائلة: إنه كلما هبت نسمات المساء وعبثت بشعرها تشعر وكأنها كانت ذات فضاء عذب راحل طائراً خرافياً ملوناً قبل أن يمسخه الرب الغاضب لكائن بشري يتحدث، يضحك، يمشي على قدمين، يعاني الوحدةَ والسأم.
 أحاول أن أُبدي دهشتي أمام فكرة الفتاة المجنونة، لا أستطيع، تتجمدُ تقاطيعُ وجهي على هيئة كآبة بلهاء ثابتة، أحاولُ أن ابتسمَ فأبدو وكأنني أقفُ ذاهلاً على شفى هاويةِ بكاء، الفتاةُ تُشيحُ وجهَها عني، أسمعها تتمتم بشتيمة وتتوعد بانتقام، أشعرُ بخطى مقهورةٍ لدمعتين خجولتين تتحسَّسُ الطريق إلى الخارج، أحاول أن أنهض لأغادرَ المكان، لا أستطيع، قوةٌ جبارةٌ خفيةٌ تثبتني في مكاني، أشعرُ بتراخٍ مفاجئٍ في أطرافي، كائناتٌ غامضة تتحرك في دهاليز جسدي، تمخرُ عُبابَ دمي، تبعثرُ اتجاهات شراييني، أشعرُ بها الآن داخلَ تجويفِ عيني اليمنى، عيني اليمنى تسقطُ على الأرض صامتةً منهارة، تستقرُّ عند حذاء أحد الجالسين المستغرقين في الضحك أو الحديث، فضاءُ مخيلتي يضطرب، دوارٌ فظيعٌ يلفُّ أعصابي، من النافذة خلفي تتدفق روائحُ شرسةٌ لجثث قديمة، يدبُّ الذعرُ في قلبي.
إلهي ما الذي يحدثُ لي هذا المساء؟ أنحني على الأرض مرتبكاً، ألتقطُ عيني برفق، أحاولُ أن أثبتها مكانها بيدي اليمنى، تسقط يدي اليمنى، أنحني مرةً أخرى لألتقطَ عيني ويدي اليسرى، تنهمرُ أسناني على الأرض، تتوزع بين الأقدام، مذعوراً ألملمها، أحشوها في فمي، الكائناتُ الغامضة تواصل جولاتِها التدميرية في دمي وأحشائي وأطرافي، أتساقطُ طرفاً طرفاً، تتهاوى أمعائي، يندلقُ دمي، أحاولُ أن أصرخَ مستنجداً بالجالسين حولي، لا يخرج مني صوت، لم يعد لدي لسان، هو الآنَ يلفظُ الكلماتِ الأخيرةَ المخنوقةَ تحت الأقدام، ما زالوا يتحدثون، أحياناً يضحكون، بجانبي فتاة، خلفي نافذةُ قصائدي متعثرة ، قميصي أبيض.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.