متهورون على الطريق السريع
لقد قرر الرئيس السابق أوباما في أيامه الأخيرة أن يخلع القناع عن سياسته الخارجية في الشرق الأوسط. ففي مقابلته الشهيرة في مجلة «ذا أتلانتيك» أظهر وجهه الآيديولوجي الحقيقي على غير عادته، كان صريحاً لدرجة الفظاظة، لكنه أراد أن يوضح رؤيته السياسية للعالم قبل أن يغادر.
مع المرشحين الديمقراطيين الجدد لم تعد هناك حاجة للبس قناع الزينة القديم من الأساس، فقد عبروا عن أفكارهم ومبادئهم في السياسة الخارجية التي تمثل امتداداً وتطوراً لأفكار الرئيس السابق.
وإذا استثنينا المرشح الديمقراطي مايكل بلومبيرغ الذي يحتفظ بشيء من روح السياسة الخارجية القديمة التقليدية، فإن الديمقراطيين الآخرين يمثلون قطيعة تامة وخروجاً كاملاً عن النص. إذا كنت تعتقد أن مرحلة الرئيس أوباما فوضوية، قتل فيها السوريون، وتمدد فيها الإيرانيون، وانتعش فيها المتطرفون، فلقد كنت ترى البروفة فقط، فالمسرحية الحقيقية من إخراج ساندرز أو إليزابيث وارن لم تبدأ بعد. إنهم مثل المتهورين الذين يقودون السيارات على الطريق السريع.
وقد يقول المرء إنها مجرد لحظة الحماسة الانتخابية والمشاعر المنفعلة، وسيعودون إلى صوابهم بمجرد الدخول إلى البيت الأبيض. لكن الذي لا يفوتنا أن هذه الشخصيات تعبر عن صميم مبادئها. إنها ثورية سياسياً ومارقة بشكل كامل عن التقاليد القديمة التي أسست العالم الذي نعرفه اليوم.
الفصيل الديمقراطي المتغلب داخل المؤسسة انتقل بشكل كامل إلى أقصى اليسار. الفصيل الذي دفع سياسية متمرسة كنانسي بيلوسي إلى تمزيق الأوراق على مرأى العالم كما تفعل الطالبات المراهقات إرضاء له. ونعرف أنها أقدمت على خطوة العزل رغم معرفتها بفشلها مسبقاً في سياق تملقها الذي بدأت به منذ سنوات.
هذا الفريق المنتصر تمثله شخصيات متطرفة بشكل حقيقي وليس خطابياً. ويشكل حالة متطورة من الانزياح الآيديولوجي الذي جعل المرشحة الديمقراطية السابقة هيلاري كلينتون غير جذابة سياسياً بخطابها الديمقراطي الليبرالي التدخلي القديم. فبيرني ساندرز، المرشح الديمقراطي المتقدم والأكثر حظوظاً يمتدح من دون أن يهتز في وجهه عصبٌ الرئيس الكوبي السابق فيدل كاسترو. هذه الخطيئة لو خرجت إشارة من فم أي مرشح ديمقراطي سابق فستنعى نهايته، لكنها الآن أمر عادي لا يثير أي قلق ومخاوف.
إننا نعيش في عصر بعد الحرب العالمية الثانية واندحار النازية والشيوعية. عالم صنعته القوة الأميركية. ومع حلفائها التقليديين المعتدلين حول العالم تشكلت أطول فترة من الاستقرار في التاريخ البشري، حتى خلت من أي حروب عالمية. واستمر على هذا النهج الرؤساء الجمهوريون والديمقراطيون بنسب متفاوتة. لكنها في كل الأحوال كانت عقيدة مترسخة، والخروج عليها هرطقة، عقابها الحرق انتخابياً وسياسياً. لا يجرؤ أي مرشح على الجهر بمثل هذه المقولات التكفيرية. لكن في عهد الإدارة السابقة تكسرت لأول مرة مثل هذه التقاليد، وبتنا نسمع أدبيات تعظ بما وصف «عالم ما بعد أميركا». والمقصود نظام دولي جديد يدار بقوى عالمية متعددة. وحينها رأينا مشاهد التودد لأنظمة مارقة، مثل النظام الإيراني الذي يسعى بشكل أساسي لهدم النظام القديم.
كان هذا هو الخط المتصاعد حتى اللحظة التي أُعلن فيها ترمب رئيساً لأميركا، تغير المشهد بشكل كامل، وأعادت إدارته عملياً العمل بالعقيدة القديمة. مع القوى الصاعدة في الفريق الديمقراطي بدأنا نسمع ذات المعزوفة، لكن بكلمات جديدة الآن وأكثر وقاحة، لدرجة أن نرى هؤلاء المرشحين يحتضنون ويدعمون أكثر الخطابات تطرفاً وراديكالية من جماعات الإسلام السياسي الخطيرة السنية والشيعية.
ونسمع الآن كلمات الغزل في النظام الإيراني الذي يعقد كل آماله حالياً على فوز أحد المرشحين الديمقراطيين بالرئاسة للخروج من مأزقه. ومن دون فقط التفكير في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، فإن وصول هذه الشخصيات سيغير صورة العالم الذي نعرفه للأبد حيث يتم الإعلان بصراحة عن الانسحاب من العالم، الأمر الذي يعني عودة القلاقل من جديد. وكما حدث قبل 3 سنوات ونصف السنة، سيكون المخرج الوحيد هو أن ينتصر ترمب للمرة الثانية على هذا المد الصاعد المندفع ليخمده على الأقل 4 سنوات مقبلة.