الشعب والقيادة الى اين؟!
يستطيع الشعب الصمود والانتفاض والتضحية والمقاومة وافشال مخططات العدو، ولكنه يحتاج لقيادة حتى يحصد ثمار كل ذلك. والقيادة بحاجة لبرنامج متقن مبني على أساس فكر سياسي.
والشعب الفلسطيني لا تتوفر لديه رفاهية الوقت للتجربة والخطأ او الانتظار، فعدوه يختلف كثيرا عن الاستعمار الكلاسيكي. الحركة الصهيونية بعد تأسيسها حصلت على دعم كبير عسكري وسياسي ومالي ولوجستي، من الدول الغربية الاستعمارية بشكل متتالي ومن كل ادواتهم في المنطقة. وذلك لاسباب مختلفة ومتعددة. في وقت كان فيه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الشقيقة خارجين من مرحلة طويلة تحت الاحتلال التركي وحالهم يتصف بالضعف والفقر والامية وغياب القيادة السياسية.
ورغم كل ذلك قاوم الشعب الفلسطيني بكل امكانياته للحفاظ على وطنه. وخاض في عام 1936 أطول اضراب سياسي في التاريخ. وحين نجحت الحركة الصهيونية باحتلال اكثر من نصف فلسطين وإقامة دولتها عليها، استطاع جزء من هذا الشعب البقاء والصمود في وطنه، وبدأ باقي الشعب، الذي هُجّر وتشرد، بدأ مباشرة بعد النكبة بمحاولات تنظيم نفسه للاستمرار في النضال لاستعاده وطنه.
ونجح خلال فترة قصيرة نسبيا في تشكيل حركات ثورية وبناء تحالفات مع حركات التحرر الى ان أسس منظمة التحرير الفلسطينية التي أصبحت اقوى بعد النكسة. ولقيت منظمة التحرير التفافا واحتضانا شعبيا واسعا جعل منها قوة حقيقية في المنطقة والعالم وحليفا قويا لحركات التحرر ومجمل المعسكر الدولي المعادي للامبريالية العالمية والرجعية في العالم العربي. الى ان انتزعت تمثيل الشعب الفلسطيني الشرعي والوحيد عام 1974.
يمكن القول ان هذه المنظمة تنازع داخلها، بعد تخلصها من هيمنة وتأثير الأنظمة العربية، بعد النكسة، واستقلاليتها بفلسطينيتها، تياران فكريان الأول يقوده ياسر عرفات زعيم التنظيم الأقوى حركة فتح وهو تيار وطني برغماتي بعيد عن الأيديولوجيات منفتح على كل القوى المؤيدة للشعب الفلسطيني وكذلك القوى المؤثرة في قضيته. والتيار الثاني ضم القوى القومية والماركسية والماوية وفي مقدمتها الجبهة الشعبية واقتصرت علاقاته على القوى المعادية للامبريالية والرجعية.
والتياران رفعا شعار الكفاح المسلح كشكل وحيد للنضال لتحرير فلسطين، ولكنهما في واقع الامر سرعان ما اضافا في الممارسة العملية النشاطات المجتمعية والسياسية والدبلوماسية وان بغير اتقان، وبتفاوت. وبقيت هذه التفاعلات في منظمة التحرير الى ان وصلت الى تبني البرنامج المرحلي المشترك وحصولها على الاعتراف الدولي. وتوسع نشاط الحركات الرئيسية في المنظمة داخل الأراضي المحتلة، كما توسعت نشاطاتها السياسية والدبلوماسية على الصعيد الدولي وازدادت مسؤولياتها امام القوى الدولية مما أدى الى الحذر في ممارساتها لاشكال النضال المختلفة. بعد سنوات قليلة ظهر تيار في داخل فتح يدعو الى إقامة صلات وعلاقات مع قوى داخل المجتمع الاسرائيلي للتأثير على مواقفها.
جاء عدوان إسرائيل على بيروت عام 1982 وإخراج منظمة التحرير من لبنان وابعادها عن حدود فلسطين ليشكل ضربة قوية للمنظمة ويخلخل بنيتها. وضعفت قدرتها على الكفاح المسلح مما أدى لزيادة نشاطها السياسي، وهذا طبعا كانت له تبعاته وخاصة على التيار البرغماتي الذي وجد نفسه يناور مع مختلف الأنظمة المؤثرة في القضية الفلسطينية ويعقد معها اتفاقيات مما افسح المجال لتدخل وتأثير الأنظمة العربية في مواقف الفصائل الفلسطينية المختلفة وحدث الانقسام في المنظمة مع انعقاد المجلس الوطني في الأردن واتفاقية قيادة المنظمة مع الأردن على العمل المشترك.
في ذلك الوقت كان لغلبة الانتماء الوطني الفلسطيني لدى الفصائل الرئيسية، على الامتداد الأيديولوجي والمصالح الفئوية، الدور الحاسم في الحد من تأثير القوى غير الفلسطينية ورأب الصدع وإعادة الوحدة لمنظمة التحرير. وانعقد مجلس وطني توحيدي في الجزائر أواسط عام 1987 وانضم الشيوعيين للمنظمة والذين كان لهم قوة وتأثير كبير داخل الأراضي المحتلة وكانوا توحدوا واسسوا حزبهم المستقل عام 1982 ولعبوا دورا هاما في إعادة الوحدة للمنظمة.
بعد اشهر قليلة ظهرت ثمار العمل السياسي والمجتمعي للفصائل في الأراضي المحتلة باندلاع انتفاضة جماهيرية عارمة قلبت الطاولة واربكت الاحتلال واعادت لمنظمة التحرير عنفوانها. وخلال ذلك لم يجد فرع الاخوان المسلمين في فلسطين مفرا من المشاركة في العمل الوطني ضد الاحتلال ولكن ليس من خلال المنظمة كما الاخرين بل كمنافس لها واسسوا حركة حماس.
ومع استمرار الانتفاضة وقوتها والتفاعل الدولي معها حدثت تفاعلات حتى في داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، وظهرت الى السطح قوى اطلقت على نفسها اليسار الصهيوني وزادت علاقات وحوارات تيار فتح بقيادة أبو مازن مع هؤلاء. وأزداد دعم الفلسطينيين في داخل إسرائيل للمنتفضين في الأراضي المحتلة. وطفت على السطح اكثر من أي وقت مضى علاقات تواصل مع قوى داخل إسرائيل، فاضافة للعلاقة مع الشيوعيين في إسرائيل ظهرت علاقة حماس مع فرع الاخوان المسلمين داخل إسرائيل وزادت علاقات الجبهة الشعبية مع مجموعات التروتسكيين والجبهة الديموقراطية أيضا. في تلك الفترة كانت لهذه العلاقات مبررات واسس ضمن الوضع القائم.
ارتباك معسكر الأعداء اثناء الانتفاضة جعلهم يبحثون عن أي عمل يخفف منها او ينهيها حيث لم ينفعهم القمع والبطش. ففتحت الولايات المتحدة قناة اتصال مع منظمة التحرير. وبدأت بعض الدول الأوروبية (بالتنسيق مع إسرائيل) وخاصة النرويج بعقد اجتماعات مع المنظمة.
وجاءت الضربة القوية الجديدة للمنظمة باحتلال العراق للكويت وحرب الخليج ونتائجها، فحوصرت ماليا وسياسيا وضعفت اكثر، وترافق ذلك مع انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي حليفها القوي، فخافت القيادة على مصيرها ومصير المنظمة.
في تلك المرحلة وتفاعلاتها وضعت أمريكا وإسرائيل الفخ للمنظمة واقتنصت مرحلة ضعفها. فوافقت المنظمة على المشاركة في مؤتمر مدريد بشروط ما كان ممكنا لها الموافقة عليها لولا وضعها الصعب جدا وخوفها من القادم.
ودخلنا مرحلة جديدة تختلف عن كل ما سبقها. وكان من الطبيعي في ظل هذا المسار ان تتعزز قوة التيار الذي مثله أبو مازن وتبتعد بالتدريج التيارات الأخرى بما فيها تيارات داخل فتح نفسها. ووقّعت قيادة منظمة التحرير على ما اصبح يعرف باتفاقية أوسلو، والتي من اهم نتائجها وقف الانتفاضة دون قطف ثمارها. وبتأسيس السلطة بدأت قيادة المنظمة بالابتعاد شيئا فشيئا عن حلفائها الطبيعيين وتعزيز علاقاتها بالانظمة التابعة لامريكا وبامريكا نفسها، ووجدت نفسها تقدم التنازل تلو الاخر على امل الحصول على دولة وان منقوصة. وبدأ الدعم الشعبي للمنظمة بالتناقص نتيجة مواقفها السياسية وبالاكثر نتيجة تصرفات مسؤوليها وأجهزتها مع أبناء الشعب. وهيمنت على القرار في المنظمة والسلطة حركة فتح بقيادة عرفات ودور كبير لابي مازن وتياره وتم تهميش كل الاخرين.
وعمليا في الممارسة انتقلت المنظمة من خندق حركات التحرر والقوى المعادية للغرب انتقلت الى أحضان الغرب.
واي حركة تحرر اذا لم تدر علاقاتها مع خندق اعدائها من موقعها الطبيعي في الخندق الاخر، لن تستطيع تحقيق أهدافها.
خلال سنوات قليلة وفي عام 2000 ادرك ياسر عرفات الخطيئة. واصبح واضحا له ان الاستمرار في هذا المسار لن يجلب سوى ضررا اكبر على قضية شعبه. واطلق انتفاضة مسلحة بقيادة تنظيم فتح ومشاركة الأجهزة الأمنية وأعاد الاعتبار لحركة فتح وللمنظمة في الأوساط الشعبية. وعادت الفصائل لتلعب دورها ولكن بقيت الهيمنة لياسر عرفات. تيار التفاوض والتواصل والعمل السلمي ومواصلة العلاقة مع الولايات المتحدة الامريكية اعتبر ان اللجوء الى الانتفاضة المسلحة كان خطأ وكان يجب مواصلة التفاوض واجراء إصلاحات على السلطة الفلسطينية.
وجد عرفات نفسه وحيدا ومحاصرا من أمريكا وإسرائيل والأنظمة العربية التابعة لهم بل وحتى من بعض الأنظمة المناوئة لامريكا. ويضاف الى ذلك منافسة حماس للمنظمة ونشاط تيار فتح التفاوضي بالضغط للموافقة على بعض طلبات أمريكا. امام كل ذلك رضخ عرفات تكتيكيا ومؤقتا ولكنه بقي على قناعته بان مسار أوسلو يجلب الضرر والدمار. ولجأ لتنظيم فتح للتخريب على تيار أوسلو وافشاله. وهذا ما نجح فيه. وتنحى ابو مازن.
ودفع أبو عمار حياته ثمنا لمحاولته انهاء مسار أوسلو والتوقف عن الاعتماد على أمريكا.
عاد أبو مازن واصبح الرجل الأول على رأس المنظمة والسلطة. وبقي على قناعاته بان مسار التفاوض والعمل السلمي هو الطريق الوحيد، ولان هذا التيار لا يلقى دعما شعبيا وفصائليا ولا حتى من أوساط في حركة فتح. كان من الطبيعي ان يلجأ أبو مازن الى الدكتاتورية ويبدأ بابعاد معارضيه.
وفي هكذا أوضاع خاضت فتح الانتخابات البرلمانية منقسمة على نفسها وخسرتها لصالح تنظيم الاخوان المسلمين حماس. وتراجعت قوة الفصائل الأخرى.
وكانت إسرائيل بعد اغتيال عرفات قد خرجت من غزة لتسهيل تنفيذ مخططاتها بالسيطرة على الضفة الغربية واضعاف السلطة والمنظمة فيها اكثر فاكثر. وسهلت لبعض القوى الدولية والإقليمية تقديم مساعدات كبيرة مالية وعسكرية لحركة حماس.
بعد الانتخابات، اعترفت قيادة أبو مازن بنتائجها رسميا ولكن في الواقع العملي عرقلت على حماس الحكم الفعلي، وحماس التي لم تعتبر نفسها يوما جزءا من المنظمة كحركة تحرر وطني بل منافسا وبديلا لها بدأت بمحاولات فرض سيطرتها وخاصة في غزة بالقوة. وبذلك تهيأت الظروف للاحتراب والانقسام. إضافة الى عامل اخر ساعد على الانقسام هو الخلافات الداخلية في فتح وكذلك تفرد أبو مازن في القرار وابعاد الفصائل عن المشاركة في مواقع القرار الفعلية وإبقاء وجودها في المنظمة شكليا.
وحدث الانقسام، واخطر ما فيه على القضية هو الانقسام الجغرافي بين الضفة وغزة اكثر من الانقسام السياسي والسلطوي، ولذلك فان حقيقة ما حدث هو اقتسام وليس انقسام. وشكل هذا بغض النظر عن أسبابه وعن النوايا اكبر فائدة لاعداء الشعب الفلسطيني. فقامت إسرائيل بمحاصرة قطاع غزة واضعاف السلطة في الضفة بشكل كبير وتكثيف الاستيطان تمهيدا لابتلاع الضفة.
حماس حكمت غزة منفردة وبالقوة كما هو حال الحركات الدينية وابقت على علاقاتها ببعض القوى المناوئة لامريكا للحصول على دعمها المالي والعسكري ولكن تحالفها الرئيسي اقامته مع تركيا وقطر اللتان تصبان بدورهما في الخندق الأمريكي ومصالحه الدولية والإقليمية، إسرائيل من جهتها ولتنفيذ مخططاتها واصلت حصارها لقطاع غزة. وتهاجم غزة من وقت لاخر لابقاء حماس تحت سقف معين. ومن الطبيعي في هذه الأوضاع في القطاع ان يعم الفقر وينتشر الفساد ويلجأ الناس للهجرة.
وفي الضفة انفرد أبو مازن بالحكم وابعد كل من يعارضه حتى من داخل تياره تيار المفاوضات والعمل السلمي عن موقع القرار واضعف منظمة التحرير وهيئاتها وغير مجلسها الوطني والمركزي وهمشهما. وابقى هامشا للاخرين للعمل والنشاط بعيدا عن مواقع القرار السياسي. ومنع بالقوة كل اشكال النضال التحرري، ويسمح للنشاط الجماهيري السلمي في بعض الأوقات والأماكن بما لا يؤثر على سياسته ونهجه. وابتعد عن العلاقات مع القوى المناوئة لامريكا وعزز علاقاته بالانظمة العربية التابعة للولايات المتحدة ولا يزال يراهن على الوصول لدولة من موقعه في هذا المعسكر ومن خلال المفاوضات فقط. ومن الطبيعي أيضا في هكذا أوضاع انتشار الفساد، ونتيجة لاختلاف أوضاع الضفة عن غزة ربما يكون الفقر ومحاولات الهجرة اقل منها في غزة ولكنها موجودة.
ومع عودة نتنياهو للحكم في إسرائيل والانزياح الى اليمين المتطرف الذي تنامى في إسرائيل، وانهيار ما كان يسمى باليسار الصهيوني، فهم أبو مازن انه لم يعد هناك إمكانية للوصول الى أي حل مع إسرائيل، ولكن وعلى نحو غريب لم يغير من نهجه السياسي واستمر في الاعتماد على الولايات المتحدة.
تزايد الضغط الشعبي لانهاء الانقسام. ولكن كل محاولات انهاء الاقتسام وتشكيل حكومة واحدة للسلطة لم تكن جدية وانما تسويف للضغط الشعبي، حتى المحاولة الوحيدة التي أدت لتشكيل حكومة التوافق الوطني في عام 2014 تم اجهاضها ولم يكن هناك نية لانجاحها. وذلك لان أسباب الاقتسام لا تزال قائمة، وهي البرنامج السياسي المعتمد على المفاوضات وعلى أمريكا. وتغليب المصالح الفئوية. وتضخم عدد المستفيدين. والسبب الأهم الأطراف الخارجية التي تعمل ليلا نهارا على ترسيخ الانقسام الجغرافي والسياسي الذي يضعف كل الأطراف الفلسطينية.
بالنتيجة فان مجمل مسيرة القيادات في المنظمة وحماس منذ توقيع اتفاق أوسلو، من خلال الإصرار على الاعتماد على أمريكا والمفاوضات من خلالها او بمشاركة اتباعها والتفرد بالقرار وإيقاف اشكال النضال التحرري. او اعتماد حماس على ردود عندما تهاجمها إسرائيل فقط ودون برنامج تحرير وتغليب مصالحها الفئوية. وكذلك العقم السياسي للفصائل الأخرى وقصورها عن القيام بمسؤولياتها الوطنية. كل ذلك مهد الطريق امام العدو ومنحه الوقت لتنفيذ مخططاته بالسيطرة على الضفة وعزل غزة وصولا الى ما سمي بصفقة القرن الهادفة الى القضاء على أي حل يحقق للشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه.
ما اعلنه ترامب ونتنياهو في واشنطن ليست صفقة ولا مشروع حل بل هي رصاصة الرحمة على اتفاقية أوسلو ومجمل مسيرة المفاوضات العبثية وإعلان مواصلة استكمال المشروع الصهيوني بالقوة. ولم يتبقى سوى دفن اتفاقيات اوسلو وهذه مهمة على عاتق شعبنا.
تنحية نهج فقط بالمفاوضات، نهج الاعتماد على أمريكا واتباعها، والعودة للتحالف (وليس التبعية) مع القوى الداعمة لشعبنا والمعادية للمعسكر الامريكي، وانهاء حكم حماس المنفرد لقطاع غزة وانبثاق أداة كفاحية تقود منظمة التحرير وتوحد كل القوى على برنامج سياسي كفاحي تحرري واحد بقيادة تلغي التفرد المقيت بالقرار الوطني لان حقوق شعبنا تنتزع من العدو مجبرا وليس عبر الاستجداء. وشعبنا عظيم وقادر على مواصلة النضال.
في هذه الفترة يظهر بوضوح الاحتقان والنقمة الشعبية على الوضع القائم، ويبدو اننا نقترب يوميا من لحظة الانفجار الشعبي. وربما تلجأ القوى المجتمعية والشابة الى النزول للميادين في الضفة وغزة معا والبقاء فيها حتى التغيير.