حيـثـيــات الإتّـهام!
من المنطقي و البدهي ، أن يلجأ الضعيف في وقت الشدة إلى القوي .. و أن يسأل الناس أهل الذكر و الخبرة من علماء و أطباء و فلاسفة و رجال دين ..
و من الطبيعي أيضاُ أن تطفو على السطح بعض العوالق و الطحالب بعد كل فورة أو ثورة أو حركة
( َفأَمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} - الرعد: 17
و الزبد هنا هو الخلاصة و الفائدة ( عكس ما يعتقد الكثيرون )، و لكنه للأسف يذهب جفاء ، ولا يلتفت الناس إليه ، و يظل ما في الأرض من منافع ماكثاً فيها أيضاً بغير إنتباه أو بحث أو إنتفاع من الناس .. و قد بين الله تعالى أهمية الزبد في ذات الآية ، وكنا سنفهم قيمة الزبد لو أننا رجعنا بأعيننا و تبصرنا قليلا قوله تعالى {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} ..
فقط هذه الآية الكريمة العظيمة ،كفيلة بأن توضح كم نحن مأفونون ، هلعون ، لا نتدبر ما نقرأ و لا نفهم رسالة الله إلينا ..
و بقدر ما يُضحك و يُـبكي ، ما آلت إليه عقول بعضنا من تحليلات و تأويلات لفورة الفايروس و الوباء الذي نعانيه هذه الأيام .. مثل أن تجد من يقول إنه لعنة الله على غير المسلمين ، و عقاب الله لهم .. و كأن المؤمنين في حل من آثاره و في عصمة من العدوى و مناعة من الوباء ..
و يصورون لنا أو يجترون بعض الصور و الأقوال حول ( عودة الناس إلى الله ) وحول ( الأمم و هم يدخلون في دين الله أفواجاً ) و صوت آذان الصلاة في المانيا ، و صلاة مفبركة لإيطاليين خلف مسلمين في أحد المساجد و غيرها الكثير من الشعوذات و الدجل و الزيف الذي لا يعرف حقيقته إلا صانع هذه الأكاذيب و مروجها لأي سبب أو دافع كان ، و صاحب العقل المتدبر و المؤمن بثقافته و دينه و علمه ..
* ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) يونس 99
* (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) [ هود 118 ، 119
* ( أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ) [ الرعد : 31 ]
ليس معنى هذا أننا نكره أن يهدي الله الناس ، و أن يستفيد البشر من تجاربهم ، و يفكروا فيها و يصلحوا من شأنهم و سلوكياتهم و أخلاقهم .. ولكن لابد هنا من الإقرار بطبيعة الإنسان .. ونتذكر أن الإنسان لو كان يعتبر فيؤمن ، لإكتفى الله تعالى بإرسال نبي رسول واحد فصلحت البشرية و إستقامت ، و أرتقت الأخلاق و ساد السلام ربوع الأرض ، ولكننا نعرف أن رسلاً و آيات و معجزات ، و إبتلاءات ، و كوارث ، لم تردع الإنسان ، و ظل كلما خرج من مصيبة يعود إلى سيرته الأولى أو أكثر غلطة و توحشاً و فساداً ، فيلحد أو يكفر أو يعبث و يلهو و ينسى ضعفه و يظن أنه قادر قوي ، فطن لبيب فيقتل الأنبياء و يحارب الخير و يتسلط و يستعبد و يحتل و يكذب و يفسد فيها ويسفك الدماء .. تلك هي إرادة الله وسنة الحياة ، و لا أعتقد ، و لا أظن أن عاقلاً يعتقد أن وباء الكورونا ، المستجد و القديم و القادم سيحدث ذلك الأثر البالغ في إعادة الناس إلى الله ، أو أن البشرية ستفيق غدا صباحاً لتسبح بحمده ، و تعتنق الدين ..
ولكنها ربما ستكون ( وثيقة ) و شهادة علينا .. تضاف إلى حيثيات الإتهام ، و الإدانة بعدم التبصر و التدبر و بتهمة أننا تركنا الزبد ليذهب جفاء ، و تركنا ما ينفعنا ماكث في الأرض دون إستفادة .. أننا تركنا السفهاء منا يسوقوننا فكرياً و علميا و سياسياً .. و ندعوا الله أن لا تخرج البشرية من هذا الوباء و الابتلاء أشد قسوة و بعداً عن الصراط المستقيم ، و أكثر فجوراً و عنصرية و دموية ..
فالنتائج تعرف بمقدماتها ، و حالة التحشيد من قبل حكام أساءوا الإدارة ، و شحنوا الناس بخطاب العنصرية و الكراهية ، و حالة إستشراء المنافع و المنافسة الإقتصادية حتى في علاج الوباء ، هي في إزدياد و باتت أكثر وضوحاُ .. و لا نرى هذه الأيام حالات عودة إلى عبادة الله ، بقدر ما نرى حالات تفضيل العودة إلى عبادة أصنام الإقتصاد و المال و معابد البورصة و النزوح إلى تجارة و تصنيع الذهب ، على أنها طريق الخلاص ولو على حساب أرواح البشر ..