هل يعيد لنا «كورونا» عقولنا؟
هل يفتح وباء «كوفيد- 19» الباب لإعادة الاعتبار للعقلانية في العالم؟
إذا كانت من ميزة للعقد الماضي؛ فهي تمكن الشعبويات والوطنيات العصبية والعداء الحار للنخب وأهل الاختصاص وللنخب الحزبية التقليدية والدولة وأجهزتها عموماً؛ من الرئيس دونالد ترمب إلى «بريكست»، ومن ناريندرا مودي في الهند إلى جايير بولسونارو في البرازيل.
الافتراض الأعمّ في العالم اليوم أن الفيروس يصبّ مياهاً كثيرة في طاحونة الشعبويين. مَن كان متأكداً من «لوثة» الغرباء والمهاجرين، فسيزداد قناعة بمحاسن الانغلاق على الذات. وبعض مَن كان على حافة الإيمان؛ فسيقفز بحماس ملتهب إلى أديان الشعبوية ومذاهبها الشتى. الأزمات الاقتصادية المتوقعة في أعقاب الجائحة، والاضطراب المهول في آليات الإنتاج والتجارة، تشجع على الافتراض أن ما كان سائداً قبلها سيتفاقم.
ترمب لم يتردد في إسقاط الجنسية الصينية على الفيروس. والاعتداءات التي سُجلت ضد آسيويين في أكثر من مدينة صارت مادة للتشاوف على منصات «السوشيال ميديا» ومادة تعبئة في حرب حضارات افتراضية.
أما ازدهار نظريات المؤامرة، فلم تبقَ عند حدود الحكايات الشعبية؛ بل استلّتها دول وحكومات من جعبها ووظّفتها في الحروب السياسية والجيوسياسية المتفرعة عن الجائحة.
ذهبت الصين إلى حد اتهام واشنطن بالمسؤولية المباشرة عن إنتاج الفيروس ونشره. مثلها فعلت إيران. أما روسيا فاتهمت دولاً عدة من التي انشقت عن الاتحاد السوفياتي السابق بالمسؤولية عن الفيروس.
أمام هذا السيل؛ كيف يمكن الافتراض أن العقلانية ستجد لنفسها مسارب إلى الشأن العام وإلى سلوك الناخبين؟
الجواب المختصر يكمن في صورة الدكتور أنتوني فاوتشي، كبير مستشاري الصحة في الولايات المتحدة و«القائد الأممي» للحرب على «كورونا».
صارت صورة الرجل الضئيل المتواضع صورة القوة والطمأنينة للعالم، وتحولت مؤتمراته الصحافية وتعليقاته إلى مادة لعناوين الأخبار حول الأرض... الرجل الضئيل الذي يصحح على الملأ أخطاء «قائد العالم الحر» وهفواته، والخبير المروّض للرئيس الأميركي الذي يخاطب الدول والعواصم بأعلى مستويات الفوقية، حتى بات يحتاج إلى حراسة أمنية فيدرالية مشددة من اعتداءات محتملة قد يتعرض لها من قبل أنصار ترمب.
سبق لفاوتشي أن كان صورة البطل الأميركي في الثمانينات، حين قاد الحملة العلمية والإعلامية ضد مرض الإيدز. لكن إعلام اليوم، والهواتف الذكية، ومنصات التواصل الاجتماعي، أخرجته من المسرح الأميركي إلى العالم، ومنحته سمعة وسطوة كونيتين.
فاوتشي ليس رئيساً لدولة أو حزب أو قائداً لتيار أو ثائراً أممياً أو إرهابياً عالمياً ممن كانت صورهم تملأ الصحف وشاشات التلفزة.
فاوتشي هو الخبير الذي تمقته الموجة الشعبوية وتمقت علمه ونخبويته وتكيل لمن مثله كل أشكال التهم، وهو النقيض الموضوعي لـ«آيديولوجيا الحقائق البديلة» أو «ما بعد الحقيقة»؛ المصطلح الذي حاز مرتبة «مصطلح العام» بحسب قاموس «أكسفورد» عام 2016. وهو أيضاً ممثل المجموعة التي شهدت التراجع الأكبر في تاريخ الحداثة بوصفها مجموعة العقل في مقابل مجموعة العاطفة والسلوك.
على ضفتي هذا السجال كتابان؛ «التنوير الآن» لستيفن بينكر، و«الدول العصبية» لويليام دافيس. يساجل بينكر بأن التنوير البادئ منذ القرن السابع عشر والقائم على تحديد معايير علمية صارمة للحقيقة والدور المركزي للعقل، صيرورة مستمرة. غالباً ما توضع مساهمة بينكر في خانة التفاؤل الليبرالي الذي يميز رواد «الأصولية العقلانية». بيد أن بينكر يجتهد لرفض حشره في هذه الزاوية مفضلاً تجاوز ثنائية التفاؤل والتشاؤم إلى تكوين فهم عملي بارد لـ«الحقائق» التي برأيه تميز الواقع الإنساني اليوم. ويستفيض في كتابه، كما في مساهماته الأخرى، في مراكمة الأدلة على تقدم شروط العيش، من التحسن المهول في توزيع الدخل والثروات، إلى تراجع الأمراض القاتلة والأوبئة والحروب، وارتفاع معايير الرفاه والمعدلات العمرية، وتدني مستويات الجهل والأمية ووفيات الأطفال... والعشرات من المعايير الأخرى. ويُرجع بينكر طغيان التصورات التشاؤمية حول أحوال العالم ومآلاته إلى تقاطع غريزتين؛ غريزة البقاء عند البشر التي تجعل الإدراك مشدوداً أكثر إلى المخاطر بغية تفاديها أو تجاوزها، وغريزة الصحافة المشدودة بدورها إلى المثير والدموي والأحداث المفاجئة التي تتميز في الغالب بفائض السلبية والذعر، في حين أن الأحداث الإيجابية نتاج صيرورات بطيئة وحصيلة تنامٍ وتراكم قليل الإثارة.
ويضيف أن الانحياز الأخلاقي للصحافة بوصفها حامية للتقدم الاجتماعي يلزمها بأولوية الغوص حول الفضائح والفساد على حساب التبشير بالإيجابي والجيد.
في المقابل، يقدم دافيس توصيفاً نقدياً جباراً لما آلت إليه البنية الفلسفية للتنوير بركنيها؛ توماس هوبس ورينيه ديكارت. مساهمتا هوبس وديكارت وضعتا البنيان الفلسفي للخروج من هيمنة العقل الديني الذي أنتج حرب الثلاثين عاماً التي مزقت أوروبا بين عامي 1618 و1648.
أقام هوبس فصلاً حاداً بين الحرب والسلام وشروطهما، ممهداً لفكرة العقد الاجتماعي الذي يحكم علاقات البشر. وأقام ديكارت فصلاً مماثلاً بين العقل والجسد، ليؤسس منهجاً لفهم العالم بالاستناد إلى الشك، في عالم كان يتصارع فيه البشر على اليقينيات اللاهوتية وامتلاك أسرار الوجود.
يخلص دافيس إلى أن التكنولوجيا والاقتصاد ألغيا الفارق بين سلوك السلام وسلوك الحرب، ووضعا الإنسانية في حالة تأهب وقلق دائمين؛ إذ تحاصرها الحروب الصامتة والدائمة حتى في عزّ وَهْم السلام، كأن تصحو مدينة آمنة مثل نيويورك على «11 سبتمبر (أيلول)» بلا سابق إنذار! كما ألغى تطور علم النفس الحدود الفاصلة بين العقل والجسد، واضعاً فكرة الخيارات العقلانية للبشر على المحك في مقابل ما للعاطفة والغريزة من دور في إنتاج هذه الخيارات.
وفي مقابل دور الإعلام وسرعة الأحداث وأنماط الاستهلاك المعلوماتي التي يعدّها بينكر عوارض طفيفة على مسار التنوير، يعدّ دافيس أن لهذه العوارض مساهمة استراتيجية في تشكيل ردود الفعل وخيارات البشر، وبالتالي إنتاج السياسات والسلطات والشرعيات حول العالم.
حين ثارت الضجة حول أعداد الذين حضروا خطاب تنصيب ترمب في مقابل الذين حضروا خطاب سلفه باراك أوباما، عدّ ترمب أن السجال ليس بين رقمين يمكن تعيينهما بطرق قياس موضوعية علمية، بل هو سجال بين عاطفتين؛ بين من يحبه ومن يكرهه. ترمب نفسه يقف كالتلميذ النجيب أمام ملاحظات فاوتشي. فاوتشي الذي يحيي الأمل بأن يعيد حضوره في مشهد «كورونا» الاعتبار لأولوية العقل.