فلسطين بين المشاعر والوقائع
مقالات

فلسطين بين المشاعر والوقائع

 

لا نعرف نحن أهل السبعين عاماً حقاً كم تتجذر فلسطين عميقاً في نفوسنا وأخلادنا وأرواحنا. فقبل أيام أعلنت السلطة الفلسطينية عن رفع حالة الحصار عن الأقصى بسبب احترازات «كورونا» والسماح للناس بالصلاة فيه. وقد كان ذلك عصر يوم السبت فيما أظن، وأرفقت ذلك بالطبع بالتعليمات بالتباعد والكمامات وترتيبات الدخول والخروج... الخ. فحسبتُ وأنا أستمع أنّ الأمر سيستغرق أياماً، إلى يوم الجمعة القادم مثلاً، حتى يعتاد الناس أو يسلّموا بالجديد ويعودوا للصلاة بالمسجد، وبخاصةٍ أنّ المساجد الأُخرى فُتحت أيضاً، ومن الأسهل الصلاة فيها إذا كان هناك إصرار على صلوات الجماعة قبل حلول موعد فريضة الجمعة. وكانت المفاجأة في إقبال آلاف الشبان، على صلاة الصبح بالمسجد فجر اليوم التالي، وشاهدنا شيوخ الجامع وهم بين الضحك والبكاء ينصحون كثيرين بالعودة فيضحكون معاً لكنهم يتوقفون ولا يغادرون، ويطلبون من آخرين أن يبقوا للصلاة في الباحة وألا يدخلوا إلى قاعات المسجد، بحسب إجراءات الوقاية. مشهدٌ يثير الحنين والنحيب وإحساسات العجز والاعتزاز في الوقت نفسه. فعندما يسارع فتيان القدس وقراها للصلاة في الأقصى وقد حُرموا من ذلك في رمضان كأنما قد حُرموا من ذلك دهراً، فليس ذلك لأنهم حريصون على فضيلة الجماعة بالمسجد فقط، ولا لأنه الأقصى (كما سمّاه القرآن، كأنما هو يطلب من المسلمين أن يقيموه) الذي طلب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شدّ الرحال إليه من بين المساجد الثلاثة فقط؛ بل هو تعبيرٌ عن الهوية والانتماء الذي ربَّى الكبارُ عليه الصغار، وصار رمزاً للتشبث بالأرض وبفلسطين كل فلسطين.
ما عبَّر أحدٌ أخيراً عن معنًى كهذا كما عبَّر العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في خطابه الشهير. فهو ما تحدث عن حقوق شعب فلسطين، وعن القانون الدولي، وعن نضال شعب فلسطين وسائر الشعوب العربية والإسلامية، وعن العواقب الوخيمة لضمّ المستوطنات وغور الأردنّ؛ ما تحدث عن ذلك كله فقط؛ بل أفصح أيضاً عن مشاعر الفقد والفقدان، وعن استحالة القبول أو التسليم مهما كان عليه الأمر بالقهر والاغتصاب الجاريين قرابة القرن من الزمان، تحت سمع العالم وبصره، بل وبإصرارٍ من الصهاينة ومن أهل القرار في العالم على التجاهل الكبير إن لم يكن للحق الفلسطيني، فللاجتياح الصهيوني الكبير له دونما رادعٍ حقيقي.
لكي يكون واضحاً ما أقصده، سأبتعد قليلاً باتجاه مصيبتنا بلبنان لأعود مباشرةً للمصيبة الأولى. في جلسة مجلس النواب اللبناني الأخيرة ناقش المجتمعون قانوناً للعفو العام يشمل بشكل رئيسي ثلاثة أنواع من «المرتكبين» وهم: المسجونون الإسلاميون بتهمة الإرهاب، وعددهم الباقي في السجون حوالى الثمانمائة معظمهم ليسوا متهمين بالقتل، بل بالذهاب إلى سوريا لمساعدة الثوار، في الوقت الذي كان فيه «حزب الله» يجتاح سوريا بألوفه المؤلفة للقتل والتهجير، فيصبح مقاتلوه أبطالاً، ويعود المتسللون السُنة فيدخلون السجون حتى اليوم! والفئة الثانية: المتاجرون بالمخدرات، وعددهم حوالى الألف، وأخيراً الذي مضوا إلى إسرائيل عام 2000 من جنود وأُسَر جيش لبنان الجنوبي العامل وقتها مع العدو، وقد انسحبوا معه، وقد كبر الأطفال، وحصل بعض الرجال على الجنسية الإسرائيلية، والبعض الآخر على جنسيات أوروبية وأميركية، وخدم معظم الشبان في الجيش الإسرائيلي. الباقون من دون سندٍ ولا مدد يبلغون الستة آلاف، ثلثاهم من المسيحيين، وثلثهم الثالث من الشيعة. المهم جبران باسيل يريد عفواً عن الستة آلاف، ويرفض مقارنتهم بالإسلاميين الإرهابيين، ولا بأس لديه بتسويتهم بمهربي المخدرات في بادرة تقارب مع الرئيس بري! وهنا نصل إلى المفاجأة: الحزبان المسيحيان الآخران الكتائب والقوات، وقد كانا مع تسويةٍ عامةٍ للملف، تتضمن تنازلات متبادلة، وعندما شهد نوابهما مزايدات باسيل والشعبية التي يمكن أن يحصل عليها عند الجمهور المسيحي الجديد بعد انتكاسات الأشهر الماضية، ما كانت عندهم الشجاعة للبقاء مع نبيه بري وسعد الحريري في الحلّ التوفيقي؛ فانحازوا إلى خصمهم اللدود جبران باسيل، وفشل إصدار القانون!
لماذا هذه القصة الطويلة؟ لأنّ هذا هو الشأن في السياسات الإسرائيلية أيام نتنياهو بالذات. المزايدات واستحسان المستوطنين واليمين الإسرائيلي الجديد. والاطمئنان حتى لو أكلوا فلسطين بكاملها إلى الدعم الأميركي وإلى قوة الجيش الإسرائيلي. فحتى الجنرال غانتس شريك نتنياهو في الحكومة اليوم، والذي ما كان في برنامجه الانتخابي شيء عن ضم غور الأردن مثلاً لا يعترض على أفاعيل نتنياهو حتى مع تنبيه الأميركيين إلى ضرورات تأخير قرارات الضم، وذلك خوفاً من التأثير في شعبيته (!) ونتنياهو يرى أنّ الفرصة سانحة تماماً، حيث إنّ إصراره على الضم وإلغاء مشروع الدولة الفلسطينية قد يحميه من المحاكمة بتهمة الفساد، والأميركيون وسائر العالم مشغولون بـ«كورونا» وبالأزمة الاقتصادية، والعرب عندهم حروب واستنزافات، والفلسطينيون منقسمون والعلاقات وإن أوشكت على الانقطاع الكامل مع أبو مازن؛ فإنّ المفاوضات مستمرة مع «حماس» من أجل هدنةٍ طويلة!
لا يستطيع الفلسطينيون أن يتنفسوا سياسياً ولا حتى دينياً. فعندما كان الأمير عبد القادر الجزائري يدعو الجزائريين لمغادرة المناطق التي يحتلها الفرنسيون لأنها لم تعد «دار إسلام»؛ كان الفرنسيون يؤكدون أن الحريات الدينية مؤمَّنة على نحوٍ كامل. وهذا غير متوافر للفلسطينيين اليوم ولا غداً. فالصهاينة يريدون الاستيلاء على الأرض، وعلى أماكن العبادة: الأقصى بالقدس والمسجد الإبراهيمي بالخليل! ولا يزال الفلسطينيون في قيادتهم على الأقل مصرين على أن النزاع ليس دينياً، بينما يريد الصهاينة الاستيلاء على أماكن العبادة أيضاً، ويعتبرونه نزاعاً بين اليهودية والإسلام!
فتيان فلسطين الحريصون على الصلاة في الأقصى، استشهد منهم في العقدين الماضيين الآلاف، وسجُن عشرات الآلاف. وهم لن يملُّوا ولن يستسلموا. والتحدي علينا نحن العرب خارج فلسطين، ألا نستسلم ولا نتجاهل، رغم الحروب والاستنزافات المتكاثرة. خطيب الأقصى تحدث عن الصبر والمثابرة. وأحسب أنه عاملُ ثباتٍ وكرامةٍ فيما بيننا ومع العالم، وعلى أي حال فإنه ما عاد للتنازل سبيل!

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.