مـتـى بـدأ الانـقـسـام؟
يسود اعتقاد بأن الانقسام بدأ في حزيران 2007، حين قامت «حماس» بما سمّته «الحسم العسكري»، والحقيقة أن الانقسام بدأ قبل ذلك بكثير.
وللتوضيح، سنسلط الضوء على أسباب ومظاهر الانقسام، والتي بدأت مع انطلاقة الثورة عام 1965 ودامت حتى العام 2005، ثم أسبابه وتجلياته بعد ذلك.
عند انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية وتأسيس منظمة التحرير، لم يكن في الساحة الفلسطينية من يمثل الإسلام السياسي سوى «الإخوان المسلمين» (حركة الجهاد انطلقت العام 1985، وحزب التحرير لم يكن فاعلاً ولا منخرطاً في الصراع العربي الصهيوني)، وكان تنظيم الإخوان هامشياً ومعزولاً عن الجماهير، بيد أنه أخذ يتسع ويتمدد منذ أواخر السبعينيات، لكنه لم يكتسب شعبيته الكبيرة إلا بعد تحوله إلى حركة مقاومة وبدء اشتباكه مع الاحتلال، وانخراطه في الكفاح الشعبي، أي بعد انطلاقة «حماس».
في تلك الحقبة كان الخلاف مع منظمة التحرير مبدئياً (أيديولوجياً)؛ فالإخوان رفضوا وجود المنظمة أساساً، ولم يعترفوا بها، ووصفوها بأبشع التهم (خيانة، تفريط..) مع أنها كانت آنذاك في أوج اشتباكها مع إسرائيل، وفي ذروة الكفاح المسلح، ولم تكن التسوية السياسية مطروحة أصلاً، وما كان معروضاً كانت المنظمة ترفضه.
«حماس» جزء من الإسلام السياسي، هو مشروع أممي يتخطى حدود الجغرافيا ويتجاوز الهويات الوطنية، ولا يؤمن بها، ولا بالقومية العربية، ولا بالحدود السياسية بين الدول، ويعتبر أن «جنسية المسلم عقيدته»، بل أنه يمثل مشاريع تفكيكية للدولة الوطنية المعاصرة، ويعتمد خطابه على تعميمات وشعارات فضفاضة حول «وحدة الأمة الإسلامية»، ويرفض الانتماء إلى كيانات وطنية محددة، ويعتبر أن فلسطين ليست وطناً للفلسطينيين، بل هي أرض وقف إسلامي، وأن «الشعب الفلسطيني» شعب مختلَق، وأن الشعب الذي عاش في فلسطين قبل قيام إسرائيل هم مسلمون، وليس لهم هوية مستقلة، ولا يتوجب عليهم إبراز كيانية وطنية سياسية، وينظر للصراع العربي الصهيوني على أنه صراع ديني محض.
وأيديولوجية هذا التيار ترفض الدولة المدنية، وتحارب العلمانية، وتعتبرها شكلاً من الكفر والتعدي على الدين، وتعتبر الديمقراطية بضاعة غربية.. ولأن «حماس» تنتمي فكرياً وأيديولوجياً لهذا التيار (القائم على مبدأ الولاء والبراء)، ستعادي كل ما لا يشبهها، وستتصادم مع كل من يختلف معها، باعتبارها حركة ربانية، ومن هنا ستكون في بنائها الداخلي وتكوينها السياسي تمثل بناءً ثيوقراطياً يؤمن أنه يحتكر الصواب، ويمثل الحقيقة المطلقة، وينظر إلى من يخالفه على أنه مفارق للجماعة وخارج عن شرع الله.
ولسنا هنا لتقييم أي التيارين هو الأصح (الوطني، أم الإسلامي)؛ بل بصدد رصد أسباب الخلاف بينهما، وكيف تطور إلى صدام مسلح، ومن ثم إلى انقسام، ومن المسؤول عن استدامته.
في تلك الحقبة، بدأ الإخوان بالصدام مع الحركة الوطنية، كما حدث في اعتدائهم على «الهلال الأحمر» 1980، والصدامات العنيفة التي حدثت في جامعة النجاح 1982، وفي بيرزيت 1984، والجامعة الإسلامية 1984، والتحريض الممنهج ضد الحركة الوطنية، حيث كانت منابر الإخوان وإعلامهم مسخراً للهجوم على منظمة التحرير، ويصف شهداءها بأنهم «فطايس».. وعندما اكتشفت إسرائيل شحنة سلاح مع الإخوان (1980)، واعتقلت قياداتهم، اعترفوا بأنها كانت مخصصة لاغتيال شخصيات «علمانية وكافرة» من المنظمة. وعندما اندلعت الانتفاضة 1987، رفضت «حماس» الانضمام للقيادة الوطنية الموحدة، أو الالتزام ببرنامجها الكفاحي، وعوضاً عن ذلك أعلنت نفسها بديلاً عنها، ونظمت فعاليات منفصلة كادت أن تهدد وحدة الانتفاضة وتماسكها، كما رفضت «حماس» الانضمام لمنظمة التحرير في اجتماع الخرطوم 1990 لأنها اعتبرت نفسها بديلاً عن المنظمة وليست شريكة معها.
ومع دخول أول قوة شرطية إلى غزة في 1994، أطلق عناصر من «حماس» النار على مقر السرايا. وكانت في كل مرة يقترب فيها طرفا الصراع من التوصل إلى حل، أو انفراج في الموقف السياسي كانت تطلق عملية تفجيرية، تبين أن الهدف منها تفجير العملية السلمية نفسها، تلك العمليات توقفت كلياً منذ العام 2004، أي منذ بدأت بتحولها الجديد.
بدءاً من العام 2005، ستظهر «حماس» بثوب جديد ومختلف، وستبرز براغماتيتها بشكل فاق التوقعات، وستتخلى عن الكثير من أيديولوجيتها، وستنتقل من الرفض التام للنزعة الوطنية والهويات القومية، إلى القبول التدريجي بها، ثم الإقرار بها بحكم الأمر الواقع، مع الاحتفاظ بشعارات وأهداف طوباوية تطرح شعارات أممية إسلامية فضفاضة وغامضة.
وستنخرط الحركة في عالم السياسة، حتى تتطابق رؤيتها وبرنامجها مع رؤية المنظمة تطابقاً تاماً، فيما يخص موقفهما من القضايا الكبرى كالتسوية السياسية، ومشروع الدولة الفلسطينية، وموقفهما من المقاومة وممارستهما لها، والمفاوضات المباشرة، وكذلك موقفهما الملتبس من الاعتراف بإسرائيل، وصولاً إلى «وثيقة حماس» التي أعلنتها من الدوحة 2017.. بل إن السقف السياسي لـ»حماس» تبين في أكثر من مرة أنه أقل بكثير من السقف الذي حددته منظمة التحرير (موافقتها على إجراء الانتخابات دون تمثيل القدس، موافقتها على دولة ذات حدود مؤقتة، مبادرة أحمد يوسف، موافقتها على هدنة مع إسرائيل طويلة الأمد وقابلة للتجديد، التزامها الحديدي بالتهدئة).
واهم من يعتقد أنّ الانقلاب حصل في يوم وليلة، الانقلاب سبقته الإرهاصات التي ذكرناها، وسرّعته تغيرات جذرية طرأت في العام 2005: رحيل ياسر عرفات، الانسحاب الإسرائيلي من غزة، موافقة أميركا وإسرائيل على إجراء انتخابات فلسطينية تشترك فيها «حماس».. حينها، استشعرت «حماس» بقوتها، وأنها باتت جاهزة لإقصاء منظمة التحرير كلياً، أو وراثتها (تمهيداً لأسلمتها)، بدعم إقليمي؛ فطهران تقدم السلاح، الدوحة التمويل والإعلام، ودمشق الدعم اللوجستي والسياسي، وإسرائيل تغض الطرف.
وكل ما قيل عن رفض «فتح» الاعتراف بنتائج الانتخابات، وفرق الموت، ودحلان.. تبين أنها مجرد ذرائع، وقد اعترف خالد مشعل لاحقاً بأن هدف «حماس» كان إقصاء منظمة التحرير، وهذا الاعتراف أدى إلى إقصائه عن قيادة الحركة، وتلك الذرائع تفضحها فتاوي نزار ريان ومروان أبو راس ويونس الأسطل (اقتل فتحاوياً تدخل الجنة)، وهتافات (زنادقة العلمانية)، وحملة الاغتيالات ضد كوادر السلطة، والتحريض والتصعيد الإعلامي، ولنا في «أشرف أبو ليلة» أوضح مثال لمن دبر الانقلاب.
مضت على الانقلاب الدموي 13 عاماً، والوقائع تظهر بوضوح حجم الكارثة والخسائر، وفداحة الخطأ الذي اقترفته «حماس»، وما زال الفلسطينيون يدفعون ثمنه.
لا بديل عن إنهاء الانقسام، ومعالجة أسبابه، وعلى «حماس» العودة عن خطيئتها، والانضمام إلى منظمة التحرير، على أساس الشراكة، والوحدة الوطنية.
أخطاء «فتح» والسلطة وفسادها وفشلها في احتواء الانقسام تحتاج مقالاً منفصلاً.