واقعة «آيا صوفيا»: لا دين معتبر... ولا سياسة حكيمة!
تابعتُ طوال شهرٍ ونيفٍ الفكرة الجديدة البديعة لإردوغان (وما أكثر بدائعه وإبداعاته) لإعادة كنيسة «آيا صوفيا» مسجداً كما صارت بين عام 1453 (تاريخ فتح القسطنطينية) وعام 1934 عندما حوَّلها مصطفى كمال إلى متحف.
منذ بداية الإسلام، وعلى مدى التاريخ الوسيط، ما كان تحويل الكنائس إلى مساجد أو هدمها عملاً من أعمال الدين. وهذه الفكرة ليست من عندي، بل هي مبدأٌ قرآني: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعضٍ لهُدّمت صوامع وبيَعٌ ومساجد وصلواتٌ يُذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقوي عزيز». إنّ هذه التعددية في الأُمم والدول والأديان هي قاعدة التوازن (دفع الناس بعضهم ببعض) في عالم بني البشر والذي يحفظ أماكن العبادة وحريات الناس في عيشهم وأوطانهم وأديانهم. إذ أول هذه الآية في سورة الحج (الآية رقم 40) يتحدث عن تهجير القرشيين لأتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) لأنهم اختلفوا معهم في الدين: «الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حقٍّ إلاّ أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله...» إلخ. إنّ السنة الإلهية هي في حفظ هذا التوازن الذي يحقّق صون المعابد من شتى الأنواع، التي يُذكَرُ فيها الله كثيراً. والله سبحانه وتعالى ينصر الذين يقرُّون وينصرون هذا الترتيب لحريات العبادة وصون المعابد.
وهكذا فإنّ تحويل المعابد أو هدمها ليس عملاً من أعمال الدين كما ينصُّ على ذلك القرآن، وإذا حدث ذلك في حالٍ من الأحوال؛ فإنّ المآل سيكون لصالح استعادة التوازن، لأنها سُنة من سُنَن الله في الكون، والله هو القوي العزيز. وهناك آية أخرى في القرآن الكريم أوضحت ذلك كلّه. فقد جاء في سورة الممتحنة (الآية رقم 8): «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين». أنتم أيها المسلمون مأمورون بالبر والقسط مع سائر بني البشر باستثناء حالتين: أن تهاجمكم فئة في الدين (هدم المعابد والإرغام على الارتداد) أو التهجير والإخراج من الديار مثلما فعل بكم القرشيون، في هاتين الحالتين يكون عليكم أن تدافعوا عن دينكم وعن أوطانكم. أما الآية السابقة على هذه الآية فتقول إنه لا عداوة دائمة، ولكي تعود المودة والرحابة بينكم وبين خصومكم تجنبوا دائماً هاتين الجريمتين: هدم المعابد، والتهجير: «عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قديرٌ والله غفورٌ رحيم». وبالفعل ففي السنوات الأخيرة صارت حماية أماكن العبادة من التحويل والتهديم بنداً رئيسياً في إعلانات المسلمين منفردين أو مع غيرهم مثل وثيقة الأخوة الإنسانية، ووثيقة مكة المكرمة، وميثاق حلف الفضول الجديد.
إنّ كل هذا الاستطراد والتطويل المقصود منه القول إنّ الإغارة على معابد الآخرين وتحويلها أو هدمها، ليس مطلباً دينياً ولا عملاً (أخلاقياً) من أعمال البر والقسط التي يعدّها القرآن مناط العلائق بين البشر لتحقيق التعارف الذي هو غاية الخلْق العليا (سورة الحجرات: 13): «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، فالأتقى هو الأكثر عملاً لإحقاق تعارُف البر والقسط.
هل حدث في تاريخنا ما نهى عنه القرآن؟ نعم، حدث ذلك، لكنه ما كان عملاً من أعمال الدين، بل هو عملٌ من أعمال الفتح والسلطان القاهر. وهو الأمر الذي تجنبه عمر بن الخطاب عندما جاء إلى القدس بعد الفتح ورفض أن يصلي في كنيسة القيامة التي عرض عليه أسقفها صفرونيوس الصلاة فيها، وقال: لا ينبغي أن يحتجّ بذلك أمير أو جاهلٌ من بعدي! وعندما بنى الوليد بن عبد الملك الجامع الأُموي بدمشق على قسمٍ من أرض كنيسة يوحنا، جاء عمر بن عبد العزيز بعدها بأقل من خمس سنين وفاوض السلطات الدينية الأرثوذكسية طويلاً حتى رضوا بكنيسة على مقربة، وبـ14 كنيسة في غوطة دمشق. وما كان عمر بن عبد العزيز رغم ذلك مسروراً وقال: «والله لو لم يرضوا لهدمتُ المسجد، لأنّ الصلاة في الأرض المغصوبة لا تصح»!
كانت أعمال الفتح في العصور الوسطى الأوروبية والإسلامية تتعمد الإيذاء والإهانة، لأنّ أكبر ما يصيب الإنسان في كرامته وإنسانيته كما ذكر القرآن: مقاتلته في دينه، أو تهجيره من وطنه. وما جرى في الحروب الصليبية طوال مائتي عام تشيب لهوله الولدان. وإذا كنا لا نرى من آثار ذلك كثيراً في بلاد الشام وسواحلها بالذات، فلأن كل شيء أُعيد إعماره. أما ما بقي شاهداً على أعمال الفتح المضاد أو الركونكستا ففي الأندلس حيث تحولت مئات المساجد إلى كنائس، وما لم يمكن هدمه أو تحويله بُنيت كنائس ومذابح بداخله (مثل جامع قرطبة). ولا أُطيلُ هنا لأقول إنّ المسيحية الفاتحة أساءت أيضاً. بل لأقول إنّ الطرفين أو الأطراف لم يقصّروا في القهر والإذلال حتى الديني منه.
لقد قام مصطفى كمال (أتاتورك) بعملين حكيمين في السياسة والاستراتيجية: نقل العاصمة إلى أنقرة، وحوَّل مسجد «آيا صوفيا» إلى متحف، يزوره ملايين السياح كل عام. وإسطنبول لا تنقصها المساجد الهائلة والرائعة وعلى مقربة من «آيا صوفيا». أتاتورك أزال الحساسيات القومية والأُخرى الدينية، وما نقصت مساحة تركيا، ولا نقص احترامها بل زاد؛ فلماذا نبش القبور الآن؟ لقد تغيرت الأزمنة، وتغيرت العقليات، وتغيرت القيم والأخلاق. وَمَنْ لم يُصغِ لذلك، وتلهّى بالشعبويات والاعتزاز بالآن والحال؛ فإنّ العاقبة عليه وعلى بني قومه (الأبرياء) آتية في المآل!
وإذا كان عمل إردوغان ليس من أعمال الدين، ولا من مطالبه ومقتضياته؛ فهل هو مطلبٌ من مطالب المصلحة أو السياسة الكبرى؟
لا أعرف الداخل التركي معرفةً وثيقة. ويمكن أن يكون بعض الناس قد سُرُّوا بالإجراء الإردوغاني بدليل أنني شهدتُ بعض المشايخ عندنا في لبنان مسرورين مهلِّلين! أما الذي أعرفه يقيناً أنّ هذا العمل بوصفه من أعمال السياسة، ليس في مصلحة الإسلام والمسلمين. وهو الذي قاله الأزهر وعلماء المملكة العربية السعودية. إن منظر ديننا ليس في أحسن حالاته، وما نشره جهلة ومجرمون من عنفٍ باسم الإسلام في سائر أنحاء العالم، ومن ذلك هدم كنائس والتعرض للكرامات والأعراض والحريات، في سوريا والعراق، ترك انطباعاتٍ شديدة السوء لا يمكن تجاوُزُها أو نسيانها على مدى جيلٍ أو جيلين. فأين هو «رأس المال الرمزي» في تصرف إردوغان؟ هل التشبه بمحمد الفاتح أو سليمان العظيم هو الذي يُكسبه تأييد الشعب وتقديسه، وهو لم ينجح إلاّ لأنه نشر التنمية الاقتصادية وتأمّل الناس معه بحلّ المشكلة مع الأكراد؛ بينما هو الآن يشهد انخفاض التنمية وانخفاض الليرة، والاعتماد لاستعادة التوازن على فلوس الآخرين المنكوبين؟! من «صفر مشكلات» إلى عشرات المشكلات والحروب، والتراكض بين أميركا وروسيا، أيها الفاتح العظيم!
إنّ تصرف الرئيس إردوغان في مسألة «آيا صوفيا»، مضرٌّ بتركيا العلمانية وتركيا المسلمة، ومضرٌّ بالإسلام، وليس عملاً من أعمال السياسة الرشيدة والمتبصرة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.