لا يستقيم الظل و العود أعوج 
مقالات

لا يستقيم الظل و العود أعوج 

كلما أبحرت في الدراسة و البحث ، و الكتابة ، كلما تأكد لي معنى هذا القول ، فأنا بصدد كتاب جديد لي ، بعنوان " الجمهورية المصطفوية "  وهو كتاب أصبحت أضع اللمسات الأخيرة عليه  تمهيداً لطباعته ونشره  قريباً بإذن الله ، وقد أثارتني  اثناء البحث و الكتابة  تلك المفارقات ، و التشابة الغريب العجيب ، بين ماضي أمتنا و حاضرها ، و عصور المد الجاهلي و عصور المد المصطفوي ، و كأنها قصة بذات الفكرة  ، مع تغيير بسيط في الديكورات و السيناريوهات  تمشياً مع طبيعة كل مرحلة . 
فقد خسر العرب هيبتهم و تمزقوا بين الأمم ، بل و كرهوا عروبتهم يوم أنكروا أن هذا العروبة كانت ذات شأن بغير إطار و تعريف  و هو الإسلام ، و ربحوا و فازوا و إنتصروا و بلغوا السحاب شموخاً و ارتفاعاً يوم آمنوا برسالة قوميتهم ، وليس بقومية رسالتهم .
خسروا و فشلوا و ذهبت ريحهم يوم اهتموا بقشور الثقافة و التمدن دون التحضر ، و لعلي أذكر هنا الدرس الرائع لعمر بن الخطاب ، يلقنه لأبي عبية بن الجراح و وقد حضر أمير المؤمنين بنفسه ليتسلم مفاتيح القدس بعد تحريرها ، و كانت ملابسه رثة مرقعة مغبرة بل موحلة ، وكان أبو عبيدة قد راى الروم البيزنط و قادتهم و رجال دينهم و حليهم و بهرجهم ، فخف إلى أمير المؤمنين عمر يستقبله ، و هو يقول : يا أمير المؤمنين يا عمر قد صنعت اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض، صنعت كذا، وكذا، (وقال له: إنك دخلت البلد بهذه الهيئة الرَّثَّة، ومشيت على الوحل) وأن هذا لا يليق برئيس الجمهورية المصطفوية ، فضربه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صدره، وقال له : ولو كان غيرك قالها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام ، فمهما تبتغون العزة في غيره، أذلكم الله !
بل ان مسيحيي العرب ، في صدر الإسلام كانوا من أمة الإسلام ، رغم احتفاظهم بإيمانهم بملتهم و شريعتهم ، و حين نقول أمة الإسلام العربية ، مسيحية كانت أو مسلمة ، نعني أمة تجمعها  الثقافة الإسلامية ، تلك الثقافة التي هذبت و صهرت مجموع الثقافات و الحضارات ، العربية و البيزنطية ، الآشورية و الآرامية ، الهندية و البربرية ، الفارسية و الفرعونية  في بوتقة واحدة محققة غاية من أهم غايات الإسلام المصطفوي الصحيح وهي (ا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات -13 ، و التعارف بالتلاقي ، و بالتثاقف ، و التعاون سعياً الى الوصول إلى مرحلة ( الأكرم ) تتطلب معملاً هاماً ، و بدون عناء البحث عنه فالإجابة حاضرة في آخر اآية ( أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، و اللطيف  هو في معنى التقوى  سواء التعبيري البلاغي ، أو اللغوي المجرد ، فهي تعبيراً تعني الإلتزام بالطاعة و الخوف من تعدي الحدود ، و لغوياً تعني الحماية و الحؤول بين  شيئين بساتر قوي . 
ومعروف أن الحائل المانع الواقي له عدة وسائل و أدوات ، ذاتية و موضوعية ، أما الذاتية فهي المناعة الشخصية  بقوة الإيمان بمبدأ معين و عدم التأثر باي أقوال أو أفعال أو مغريات من الممكن أن تصيبه بأي عطب أو خلخلة ، و الموضوعية هي مجموع النواميس و القوانين المنظمة للحياة  ( النظام ) الذي يمنع المجتمعات من السقوط في الهزيمة و الضعف و الفقر و المرض و ما إلى ذلك ، و النظام هو الدين و المنهج ، فتعريف ( دين ) أساساً يعني ( منهج ) ، و المنهج بالنسبة لأمة العرب كان هو الإسلام ، حتى و إن لم يكن ( تشريعاً ) كما هو الحال بالنسبة للعرب غير المسلمبن ، ولكنه كان ( الثقافة ) . 
وربما في قول الله تعالى  (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) الرعد:11 ( و قد أجمعت معظم كتب التفسير أن هذه الآية تعني ان اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ من النعمة والإحسان ورغد العيش، حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها فيسلبهم الله عند ذلك إياها.. وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية، فانتقلوا إلى طاعة الله، غير الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة) . 
 و لعل المهتم باللغة ، يعرف الفارق بين استخدام  ( بأنفسهم ) و ( في أنفسهم ) !  فالباء عادة  تستخدم للدلالة على ( وسيلة أو أداة الفعل ) بينما ( في ) تستخدم عادة للدلالة على ( مكنون ذات الفاعل ) ، ووسيلة الأمة هنا المطلوب تغييرها للأفضل ، هي محصلة ثقافاتها ، و هي رسالتها السامية ( الإسلام المصطفوي غير المذهبي ) ، و القومية ذات الرسالة ، و ليس الرسالة ذات القومية . 
بغير هذا المنهاج و هذا الفهم ، لن ينصلح حالنا ، ولن نكون أمة ، ولا يستقيم الظل و العود أعوج .

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.