
على عَجليْن هوائيَّيْن
ليست من حجر وخشب ومعدن، بل من كلمات أيضاً وأفكار ومشاعر وتاريخ وحضارة!
كانت سارة ابنتي ابنة الثامنة، تتعلم قيادة الدراجة الهوائية، التي عماد السياقة فيها التوازن!
وكنت «سارحاً»، في التفكير: كيف يمكن إحداث التوازن في عالم السياسة؟ وأتذكر كيف عدت عدة مرات لقراءة «التعادلية»، لتوفيق الحكيم، ثم أردفها بعد سنوات بكتابة «التعادلية في الإسلام»، فكرة طرحها الحكيم، والتي هي ببساطة الوسطية. إنه الأديب والمسرحي، والفيلسوف والمفكر بصفاته التي قلما أن تجتمع في كاتب واحد. تتلمذت على كتبه، فما أن أرى مؤلفاً له حتى أقتنيه، وأثناء الدراسة بمصر، اقتنيت كل ما وقعت عليه عيناي، خصوصاً في الطبعات زهيدة الثمن، حتى أظنني قد جمعت معظمها إن لم تكن كلها. وكنت دوماً أجد نفسي أكرر قراءة التعادلية، التي تعني التوازن والتوسط، لا التطرف ولا الإفراط.
سارة تعلمت السياقة، أتقنت التوازن - التعادل، وأنا ما زلت أفكر: في هذه الظروف، يصعب الكلام، فكيف لنا أن نتوازن فعلاً على عجليّ السائد والاستثناء، في ظل شكنا الدائم بما هو مطلق؟
- أرى أنك ترمز!
- وكيف لا أفعل؟
له أن يفعل، لهم، فما داموا لا يحتاجون لعقول أخرى، إلا لعقول تكيّفت، أو تقولبت، فماذا سيكون الدور؟ هل انتهت الأقلام وجفت الصحف؟ إنها إذن ثقافة القطيع، التي تضع البيض كله في سلة واحدة، بدلاً من إعادة تموضع إستراتيجي.
تلعب سارة، وأفكّر، ثمة شعور بالتزام وجودي وليس التزاماً وطنياً وسياسياً، لكنّ التوازن هنا يحتاج لتدريب، وإرادة، وجماعة، حتى لا تغترب، أو يتم الاستفراد بك، لينعتوك بما يلائم تصفية الحسابات على أزرار الحاسوب، أو الـ touch، فيصبحون أبطالاً.
كنت أشجعها وأساعدها، متذكراً أخويها وأختها، ومتذكراً حالي حينما تعلمت سياقة الدراجة الهوائية وأنا فتى، لكنني بالطبع نجحت في ركوب الخيل: الحمير والبغال، كما توفر لطفل قرويّ.
كانت محاولات سارة ما بين النجاح والإخفاق، لكنها لم تكلّ ولم تملّ، فلم تمض ساعة وأكثر، إلا وسارة في بداية إتقان التوازن، ولم يكد يبدأ عصر اليوم الآتي، إلا وسارة فرحة بسياقة الدراجة: فرحة تقول: انظر بابا.. إنني أسوق. تثق سارة بنفسها، حيث التقطت اللغة الإنجليزية من اللعب على الأجهزة الذكية، خصوصاً فيديوهات الـ»يوتيوب» وهي في الرابعة.
لي أن أسرح في دراجات عمق الشمال الغربي.. في النرويج؛ أسعد لتأملها، وأتأمل في تشكيلها الفني وليس الصناعي فقط، فماذا يفعل المسافر غير تأمل الأماكن بما وبمن فيها. أصورها وفي اللاوعي واللاشعور تسكن الذكريات والفكر. ما زلت أتذكر دهشتي لرؤية أحد الأطفال وهو يقود دراجته الهوائية.
إنها تسير على عجلين ليسا متقابلين، فكيف وقفا وسارا؟ أي عجيبة هذه؟!
رأينا ذلك ومضينا معظمين الطفل سائق الدراجة.. إنه يقودها من دون خوف الوقوع، فكيف يقودها؟!
رحت أدقق في العجلين، والمقود، والمقعد، ثم هبط نظري نحو لفات الجنزير «المبزرة»، حيث «البدّالة»، ولم تمض دقيقة حتى اكتشفت كيف تسير العجلة، والعجلتان.
كان هذا بالنسبة للطفل اكتشافاً.. كانت العجلة أولى العجائب! وكانت أولى الأماني؛ فمتى سأقود بسكليت؟
بضع سنوات تمرّ، وتكثر الدراجات، لكنني لم أملّ من التأمل فيها، آملاً تجربة الركوب.. لولا خوفي: عجلان يقفان ويسيران كيف يكون ذلك؟ وأين التوازن الذي يحتاج التماثل؟!
أردفني أحد الأطفال خلفه، ففرحت بخوف، أو خفت لكن بفرح.. وحين وصلنا، تنهدت: وصلنا سالمين ركوباً على هذه العجيبة!
ثم كان يوماً.
حان موعد التجربة، شجعني الفتى: اركب وأنا «أدزك»، أدفعك.. ثم قال: لا تخف، ضع قدميك هنا وبدّل، ففعلت، حينها سارت الدراجة فتركني، فخفت: امسك بي! فمسك، وعدنا الكرة ثانية، فثالثة، فإذا بي أنضم لقادة العجائب.. وصرت أعرف عن تفاصيلها، وأجزائها.
أخيراً أصبحت أقود الدراجة من دون خوف، بعدها اشترينا واحدة!
- كأنك ابتعدت عن الموضوع!
- بل هذا هو الموضوع!
يعتقد علماء الآثار أن الخطوة الأولى نحو استخدام وسائل مواصلات من صنع الإنسان بدأت في بلاد ما بين النهرين، مع اختراع الدولاب (العجل) عام 3500 قبل الميلاد. وما زلنا نتذكر كيف كان الفرعون في الفيلم يقود عربته!
5500 عام من العجلات، فلا نعرف من نشكر لاختراعه العجل، لكننا نعرف أننا لا نستطيع أن نتخيل كيف كان يمكن أن يكون العالم لولاه!
وقد صنعت العجلات مما توفر في البيئة، من حجر وخشب ومعدن.. ومن كلمات أيضاً وأفكار ومشاعر وتاريخ وحضارة! وفيما بعد من شوكلاتة.
البكرة، شكل العجل، يدور حول محور ثابت ويلتف حول محيطه حبل أو حزام أو سلسلة معدنية.
تستخدم البكرات لتغيير اتجاه القوة أو توصيل الحركة من جهة إلى أخرى، أو توفير الجهد المبذول في رفع الأحمال!
إنها تكنولوجيا الرفع.. وأرخميدس هو الذي اكتشف البكرات..
أرخميدس نفسه الذي قال يوماً: وجدتها، وتلك قصة أخرى.
- ما زلت تبتعد يا صاح!
- نبتعد لتقترب!
«لا تخترع العجل!» اشتهرت هذه الجملة في الأوساط العلمية والهندسية، حتى أصبحت مثالاً لكل من لا يبني علمه وأبحاثه على نتائج من سبقوه.
سأتأمل العجلة على حدة، والثانية، فأرى أنهما معاً، فلا سير لواحدة من دون أن تكون الثانية معها؟
هل من فكرة ما؟
حتى نفكّر ونبدع، لا بدّ من تأمل الدراجة.. كيف؟
حينما نفكر بالأمور جزئياً، لا نتقدم، بل علينا فهم كل جزيئة كيف تعمل، ومم تتكون، ثم بعد ذلك نرى ما له علاقة معها، وندرسها كسابقتها على حدة، ثم نتأمل تفاعلهما معاً، فلا يمكن فهم سير الدراجة إلا إذا فهمنا العجلتين، ثم هما معاً.. وهذه هي الإدارة والإخراج.. والصناعة..
وهنا فقط سنكون أكثر وعياً: كيف نسوق وكيف ندير؟!
دراجات في شرق الشرق في سول عاصمة كوريا.. ودراجات في شمال الغرب بالنرويج.. ودراجات في كل مكان.
وما زلت حتى اللحظة، وأنا ألاعب أطفالي وأدربهم على ركوب الدراجات، أشعر باختراع العجل!
اختراع قديم وطازج!
- وهل قلت شيئاً؟
- ربما كل شيء!
«لا تخترع العجل!» في الحديث السياسي، فلعل هدف المصلحة الوطنية العليا يحتاج إلى ذكاء ودهاء، أكثر كثيراً من الانفعال والنزق.
لربما حكمة الشعوب تظل أبعد نظراً؛ فما استمعت لمواطن إلا أدهشني عمقه، وفكره الإستراتيجي والعملي، وما استمعت لمسؤول إلا وجدتني إزاء درس المحفوظات