كل مر لن يمر
أعتذر من صاحب المقولة الأصلية «كلُّ مرٍ سيمر» نتيجة للتصرف به على منحى آخر، خصوصاً أن كثيراً من المر بات يمر بإرادتنا وقرارنا ورضى أنفسنا، فنحن المحرض والمحرك والحكم والجلاد، نحن نصنف مَن هن الشريفات ومَن هن غير الشريفات، نحن من نقبل أن يؤكل حق المرأة في الميراث، ونحرمها من امتلاك قطعة أرض من إرث الأب ونعوضها بفتات إن كانت نية التعويض واردة، نحن من نقف أمام حرية المرأة في اختيار الزوج وحتى حرية الشاب باختيار الزوجة على أساس «بنت عائلة» و»تناسب مستوانا» وكل مجموعة تضع المستوى الذي يروق لها على هواها.
نحن ذاتنا الذين مهدنا لكل مُر أن يمر عندما غطرشنا وأغلقنا أفواهنا وعيوننا وسمعنا عن جرائم من عيار التلاعب في جودة القمح الذي يعتبر سلعة أساسية في حياة الفرد الفلسطيني، وتبنينا رواية مضللة تنحاز لمن تلاعب بجودته على حساب صحتنا، نحن من غطرشنا بمزاجنا عن تبييض تمور المستوطنات وجعلها فلسطينية وتصديرها وصمتنا، نحن ذاتنا من تعامل باستخفاف بملف استخدام الشيفارو في الخبز والكعك.
كيف لن تمر مرور الكرام في ضوء هذه الثقافة وهذا الاستخفاف، جرائم قتل في وضح النهار ونقف كمجتمع أمامها محايدين دون حراك ودون إشهار الرؤية الشرعية ضد هذه الجرائم، ودون أن تخرج بمسيرات ضد القتل مع سبق الإصرار والترصد، ضد إكراه المرأة على الزواج، ضد حجب قرار الرجل والمرأة باختيار شريك العمر، أين هي مناعة المجتمع التي يجب أن تتحقق بتحصين أبناء المجتمع عبر التربية والتعليم والثقافة التي تحقق مناعة الكل الفلسطيني؟.
قاموس ومنجد اللغة العربية كفيل بأن يعززنا بمصطلحات وكلمات نملأ بها الكون تعبيراً عن فاجعتنا وأزمتنا، والسيرة النبوية الشريفة وقصص الصحابة وسلوكياتهم تثرينا بإسناد ما نقول لنعزز موقفنا ضد الجريمة والقتل والإكراه على الزواج واحتقار المرأة وتقليل مكانتها والاستقواء عليها، والاحتجاج ضد أي تعليمات أو جهد لمنع الأذى بحقها، ليس تقليلاً من شأن ولي أمرها أو قدرتها الذاتية على صيانة نفسها، بل نتيجة لهذا التيار الجارف الذي يتنكر لمقاصد الشريعة الإسلامية التي اعزت المرأة وحرمت قتل النفس التي حرم الله وتثبيت حقوق المرأة والطفل والرجل والشاب والعامل وصاحب المال والمستثمر.
وفي هذا الخضم يجب أن نحذر من التحريض ونطفئ نار التحريض الذي يتصاعد قبل وقوع جريمة هنا وهناك نفجع بها وننسى أمرها بعد حين، وتصبح من الماضي ولا نستطيع أن نعرف كيف أُغلق الملف، والتحريض الذي يتلو الحادث أو الجريمة أو غيره وهذا أخطر، كون هناك من يريدون أن يتسلقوا على ظهر أصحاب المصيبة ليحققوا نجاحات ذاتية ومصالح ضيقة تحت لافتات قد تبدو مغرية، ويغلق الملف حتى في ظل هذا النوع من التحريض وتبقى آثاره طويلة الأمد في المجتمع دون تحقيق أي انجاز يذكر.
نحن نستخف أحياناً وغالباً وفي الآثار الناتجة عن تصفية حسابات إدارية ومالية في مؤسسة عامة هنا وهناك ونمر عنها مر الكرام تارة، لأن الامر ليس قريباً منا وأن تم تحويلها الى قضية رأي عام يهب احدهم من هنا وهناك ليظهر الأمر بأنه عادي، ولا يتم معاملته على قواعد الحوكمة والمعايير الإدارية، ما يطيل أمد الخلاف نتيجة لهذا التصرف غير المحوكم الذي يكون أساسه عائلياً أو جهوياً ليس إلا.
ونحمّل الأمور ما لا تحتمل، خصوصاً أن الباحثين والدارسين أخذوا موقفا واضحا من تدخلات تحت لافتة «حماية حقوق المرأة «تمس مسائل في جوهر الدين، وهذا ليس مضراً بل تثبيت لموقف لا نقاش فيه، ولكن لا يعقل أن نحمل ذات المسطرة في كل القضايا عندما يكون الطرح غير متناقض مع صميم الدين، مثل حق الميراث وحق اختيار الزوج والزوجة والفرق الشاسع بين الزواج والزنا مثلاً، بالتالي فإن حمل السكين أو المسدس ضد أي امرأة تتحدث بالعلن عن قضايا تخص المرأة فيه من التجني ما يكفي، خصوصاً أننا نشهد نشاطاً نسوياً محوره المرأة وحدها في عمل له نفس أهداف تطوير قدرات المرأة وتعظيم مناعتها كجزء من مناعة المجتمع يتم تعظيمه والتغني به.
ولعلنا بعد كل جريمة تحدث في مجتمعنا تتفتح جروحنا، فنبرع في جَلد أنفسنا كنوع من التنفيس، فنطرح الأسئلة الصعبة والمعقدة ولا نجد جواباً بل تتعمق حالة الانفصام بين فعلنا وعقلنا، نحن نمنع ونحجب وفي نفس اللحظة نفخر بمخالفة معاييرنا التي نحاكم عليه بأيدينا إن كانت في بلاد الاغتراب وتخص ابناً لنا أو أسرة قريبة لدينا، ونعكسها كقصة نجاح ونطالب المجتمع بقبولهم رغماً عنهم، وهم ذاتهم يصبحون جزءاً من المنظومة التي تحاكم على ذات الخطأ الذي اقترفوه في بلاد الاغتراب.