التطبيع لا يصنع السلام
منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في السابع عشر من أيلول العام 1978، توالت الاتفاقيات حتى شملت أربع دول عربية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وحدثت كلها في شهر أيلول، فقد تم توقيع الاتفاقيات بين الإمارات والبحرين من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية، في الخامس عشر من أيلول الحالي، وقبلها كان توقيع إعلان المبادئ بين م.ت.ف وإسرائيل في الثالث عشر من أيلول العام 1993، أي أن كل الاتفاقيات باستثناء اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل الذي تم توقيعه في السادس والعشرين من تشرين الأول من العام 1994، قد تم توقيعها في هذا الشهر بالتحديد، وبالطبع كل ذلك قد حدث بالصدفة، لكن يا لها من صدفة غريبة!
المهم أن توقيع اتفاق كامب ديفيد عام 1978، كان حدثاً مدوياً؛ لأن الأمر كان يتعلق بأكبر وأقوى وأهم دولة عربية، تخرج من دائرة الحرب مع إسرائيل، دون إنهاء احتلال الدولة العبرية للأرض الفلسطينية والعربية، باستثناء سيناء، الأرض المصرية، وكانت إسرائيل تتبع التكتيك السياسي الرافض للتفاوض مع العرب (مصر وسورية والأردن وم.ت.ف) مجتمعين، وتفضل التفرد بهم إن كان في ساحات الحرب أو على طاولات التفاوض، لكن توقيع اتفاق السلام مع مصر، لم يصنع السلام بين إسرائيل ومحيطها العربي، فلم تفتح الاتفاقية الباب لاتفاق سلام مع سورية والأردن، بل تم تأجيج الصراع مع فلسطين، حيث نشبت الحرب بين إسرائيل والعرب، ممثلين بالفلسطينيين عام 1982، حيث احتلت إسرائيل في تلك الحرب لأول مرة عاصمة عربية هي بيروت.
وكان اتفاق كامب ديفيد، فضلاً عن تقديم أولوية الصراع مع فلسطين، قد فتح الباب واسعاً، لظهور حرب من نوع آخر، هي الحرب مع الشعوب، وفضلاً عن إقدام الشعب المصري على تشكيل جبهات مقاومة التطبيع، التي حصرت الإنجاز السياسي الإسرائيلي في المستوى الرسمي، وفي أضيق الحدود، نشأت المقاومة اللبنانية منذ العام 1982، والتي نجحت عام 2000 بطرد آخر جندي إسرائيلي محتل من جنوب لبنان، وكرست «حزب الله» كأحد العناصر الرئيسية في مواجهة إسرائيل منذ ذلك الوقت حتى الآن.
ثم كان اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، رداً على خروج م.ت.ف من لبنان، والتي فرضت على إسرائيل الاعتراف الأشد إيلاماً في تاريخها وهو الاعتراف بـ م.ت.ف ممثلاً للشعب الفلسطيني، بل وفرضت عليها توقيع إعلان المبادئ، ما أسفر عن إنشاء سلطة وطنية فلسطينية، تقارع اليوم إسرائيل في المحافل الدولية وعلى الأرض بما لا تشتهي ولا ترغب، أي أن إسرائيل كلما حققت إنجازاً على حساب النظام الرسمي العربي، فتحت باب المواجهة مع الشعوب.
وكان إعلان المبادئ بوابة لاتفاق وادي عربة، أي أن الاتفاق مع فلسطين، يفتح الباب أمام تحقيق السلام، فيما التطبيع مع الدول العربية فرادى أو مجتمعة لا يفعل الشيء ذاته أو مثيله، وهذا ما أدركه النظام العربي في بيروت عام 2002، حين أقرت القمة العربية المبادرة السعودية التي صارت منذ ذلك الوقت مبادرة عربية جامعة.
صحيح أن إسرائيل حققت إنجازاً سياسياً بتوقيع الاتفاق مع كل من الإمارات والبحرين، ولكن أولاً لم تكن الدولتان العربيتان في حالة حرب فعلية أو حقيقية مع إسرائيل، كما لم تشاركا ولا في أيّ يوم بالحروب السابقة بين العرب وإسرائيل، فضلاً عن كونهما دولتين ليستا مركزيتين في التأثير لا على العالم العربي ولا العالم الإسلامي، لكن إسرائيل أوهمتهما خلال السنوات التي مضت بوجود خطر وجودي عليهما من جارتهما إيران، وفي الوقت الذي منعت فيه توفير أسباب القوة للإمارات بالتحديد، أجبرتها على الممر الإجباري وهو التطبيع معها، لتحصل على مقاتلات إف 35 من جهة، ولتفتح لها أرضها لمواجهة إيران، باعتبارها عدواً مشتركاً للدول الثلاث.
غني عن القول هنا: إن احتلال دول ما لدول أخرى أو لأراضي دول أخرى، لا يعني أن الدول المحتلة ليست لها علاقات دولية مع دول العالم، ففرنسا وبريطانيا ومن ثم الولايات المتحدة، كانت على علاقات مع معظم، إن لم يكن كل دول العالم، لكن ذلك لم يمنع لا حروب الاستقلال ولا أن تعلن الدول التي تربطها بها علاقات دبلوماسية أو طبيعية أن تعلن أنها ضد الاحتلال، ولا أن تمنع المقاومة المشروعة، وهذا يعني أنه كما حدث مع مصر والأردن، فإن إقامة علاقات طبيعية من قِبل الإمارات والبحرين مع إسرائيل وحتى تحالفهما الأمني معها ضد إيران، لا يعني أنهما ستؤيدان الاحتلال الإسرائيلي، فحتى الاتحاد الأوروبي ودوله، يقفون ضد الاحتلال والمستوطنات، رغم أنهم يعترفون بإسرائيل ويقيمون علاقات معها منذ نشأتها.
بل إن إسرائيل وهي عضو في الأمم المتحدة، منذ إعلان قيامها، تواجه كل عام العديد من قرارات الإدانة التي تطالبها بإنهاء احتلالها للأرض الفلسطينية والعربية المحتلة، وفلسطين لا تسعى إلى تدمير دولة إسرائيل، بل إلى إنهاء احتلالها لأرضها وإقامة دولتها المستقلة، لذا فإنه حتى بعض الإسرائيليين لا يؤيدون هذا فحسب، بل يكافحون من أجل تحقيقه، لأنهم يعرفون جيداً أن ذلك وحده مفتاح إنهاء حالة الحرب التي تحيط بإسرائيل وتحقيق السلام معها.
بالطبع خسر الفلسطينيون سياسياً جراء الاتفاق مع الإمارات والبحرين، قبل إنهاء احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية والعربية، لأنهم كانوا يفضلون، عبر المبادرة العربية، أن يكون التطبيع مع الدول العربية أداة ضغط على إسرائيل لإسناد الشعب الفلسطيني في كفاحه من أجل إنهاء الاحتلال، لكن ذلك لا يعني نهاية المطاف، فحرب إسرائيل أولاً مع فلسطين، وثانياً مع الشعوب العربية، التي عليها أن تعرف كيف تنزع الحكم من بين أيدي الأسر والنخب الحاكمة، لتضعه بين أيدي الشعوب، عبر نظام ديمقراطي.
لكن أخطر ما في الأمر، أن يدفع تراجع العامل العربي في معادلة الصراع مع إسرائيل، لتعزيز العامل الإسلامي والعامل الإقليمي وربما الدولي، لذا فإن اتفاقيتي الخامس عشر من الحالي قد فتحتا الباب أمام المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل وليس في سورية والعراق فحسب، بل ستشهد الأيام القادمة توتراً ملحوظاً في مياه الخليج، قد ينزلق مستقبلاً إلى حرب ضروس.