غربائي الحميمون
يموتونَ واحداً بعدَ الآخر، أمامي يموتونَ في أوقاتٍ متفاوتة، أعرِفهم من ملامِحهم، من طريقةِ مشيتهم، من أصواتهِم في الشارع، لكني لا أعرف أي شيءٍ آخر. أراهم كل يوم، صاروا جزءاً من نهاري.. صاحبُ البقالة المُعتمة الستيني بعويناتهِ الكبيرة، صاحبُ السوبرماركت بشقارهِ الكثير، صاحبُ السوبرماركت الشاب، صاحبُ محلِ الساعات بانهماكه على أمعاءِ ساعة، بائع بسطة أغلفة الهُويات بكرشه الطويل، بائعو الترمس والذرة والقهوة، صاحبُ المخبزِ بصمته الساخن الذي لا يُفسَّر، صاحبُ الصيدليةِ المُجامِل الضاحك المُتَحرك، بائع الكعك الصائِح كلّ دَقيقَتين: «كعك، كعك، كعك...».
كل هؤلاء أراهم كلَّ يوم ولو حدثَ واختفى أحدهم من مشهدِ صباحي، لاختلّ توازنٌ ما.. صرتُ من فرطِ وجودِهم المنتظم الدقيق أقيسُ أحداثي ومشاعري وتحركاتي وفق حُضورهم.
بعدَ قليل سأتوقفُ لأشتري كوبَ قهوةٍ من (أبو عاصم) في نفس اللحظة سيصيحُ (أبو سنينة) خلفي: «كعك..كعك..كعك»، سأبتسمُ وسأشعر براحةٍ غامضة وأمشي. بعد القهوة سأنعطفُ باتجاه مكتبي القريب..مع انعطافتي تماماً سوفَ أسمعُ فَتْحَ باب بقالة.. إنه الستيني بعتمَتهِ الجاهزة يَدلفُ إلى بقالته.
أمامَ بابِ بنايةِ عملي.. بينما أفتحُ بابها، فأدير ظهري لأقولَ: «مرحباً (مكتومة)» للصيدلاني الضاحِك المُجامِل: «أهلاً جار، أهلاً جار، أهلاً جار».
خلفَ نافذةِ مكتبي، وبينما أشربُ القهوةَ باستمتاع، فيَمرُ بائع بسطة أغلفة الهويات ليزرعَ على رصيفٍ قريبٍ هوياته منتظراً غلافَ هوية يَحتضر.
أحد هؤلاء كان - المرحوم - توفيق إمباشي (أبو كمال).. وجهٌ مألوفٌ جداً لي.. أراه باستمرارٍ في كل الأوقات.
في أوائل الثمانينيات كان لديهِ محل تسجيلاتٍ صوتية وكاسيتات (صوت الموسيقى) وسطَ رام الله.
كنتُ في الثامنةَ عشرة من العمر، أتذكرهُ واقفاً أمامَ محلهِ يحادثُ أصدقاءً له.. وأتذكرُني في تلكَ اللحظةِ واقفاً مع صديقين وصديقة نتهيأ لرشقِ باص «إيغد» بالحجارة مع مجموعةٍ من الأصدقاء الذينَ كانوا ينتظرونَ على مفارقَ أُخرى.
فجأة، رأينا الجنودَ يبزغونَ من كلِ مكان.. هَرَبَ الأصدقاء فَلَمْ نَجد سوى (صوت وموسيقى، محل أبو كمال) اندسسنا فيه واتخذنا هيئةَ عاشِقَيْن يشتريانِ كاسيتات، وهناك نَجوْنا من الاعتقالِ الذي طالَ أصدقاءَ كثيرين وخرجنا ونحن نحملُ كاسيتاً هديةً من (أبو كمال)، ولن أنسى صوتهَ وهو يقولُ لنا بينما نحن نخرجُ من المحل آمنين: «ديروا بالكم على حالكم».
وكان (أبو كمال) بارعاً في تمثيلِ دورِ بائع كاسيتات لعاشِقَيْن غَضَّيْن يقفانِ أَمامهُ بارتباك.
حدث هذا في أوائل الثمانينيات.
منتصف التسعينيات، فتحَ (أبو كمال) محلاً آخر سمّاه (الصوت الحقيقي). فتحه في شارع آخر من المدينة. وهناك وقفتُ أمامَه بعدَ كل هذه السنين لأشتري هديةً لصديقةٍ كنتُ أُحبها. لم أكنْ أَعرفُ أنّ (أبو كمال) ما زال يتذكرُ واقعةَ العشقِ المُمَثّل والكاسيت الهدية، لكنّه فاجأني حين سألني سؤالاً مباغتاً: «يا رب تكون هي نفسها».
استغربتُ من حدةِ ذاكرتهِ وحدسه، والغريب جداً أنّ حَدسهُ كان في مَحله تماماً، «نعم، نعم، إنها هي».
ابتسمَ (أبو كمال) ولم يُعلّق وأعطاني الهدية وخرجتْ.
غرباء كثيرون ماتوا في رام الله، شكّلوا جزءاً من ذاكرتي، وارتبطتْ وجوههم وابتساماتهم مع أحداث حياتي في هذه المدينةِ المحبوبة، لكنّ وجهَ (أبو كمال) بالذات الذي ظلتْ ابتسامته من بعيد وتلويحة يده الخفيفة وغمغمته بـ»مرحباً» تُشكّلُ مساحةً خاصةً في حياتي، مساحة متداخلة مع رام الله الوطن والقلب.