الاستثمار في الصحة النفسية: الحصاد الطيب يتطلب الصبر الجميل
مقالات

الاستثمار في الصحة النفسية: الحصاد الطيب يتطلب الصبر الجميل

يصادف العاشر من شهر تشرين الأول في كل عام يوم الصحة النفسية العالمي، حيث يقوم العاملون والمهتمون في مجال الصحة النفسية في كل أنحاء العالم بتحفيز الوعي بقضايا الصحة النفسية وحشد الجهود لدعمها ومناصرتها وذلك نظراً لأهميتها الحيوية للأفراد والمجتمعات على حد سواء، وقد تم الاحتفال بهذا اليوم للمرة الأولى عام 1992 بناء على مبادرة من الاتحاد العالمي للصحة النفسية.
في هذا العام اتُفِق على أن يكون الموضوع الرئيسي الذي تُصَبُّ نحوه الجهود هو "الاستثمار في الصحة النفسية"، وفي حين أن برامج الصحة النفسية عانت وتعاني من نقص تاريخي ومزمن في التمويل على المستويين المحلي والدولي، فإن الحاجة لهذا الاستثمار أصبحت ملحةً الآن أكثر من أي وقت مضى بسبب جائحة كوفيد 19 التي تفشت منذ بداية العام.
أثر جائحة كوفيد 19 على الصحة النفسية
لقد أظهرت مؤشرات دالة على الانتشار الواسع للمشاكل والاضطرابات النفسية نتيجة الأثر البالغ للجائحة على كافة نواحي الحياة؛ فقد قال روري أوكونور وهو أحد الباحثين في مجلة اللانسيت أن "الإمعان في العزل الاجتماعي والوحدة والقلق والتوتر والإعسار المالي، هي بمثابة عواصف قوية تجتاح الصحة النفسية للناس". وقد أشارت عدة دراسات إلى انتشار الاضطرابات النفسية بين الأشخاص الذين تعافوا من الفيروس بنسبة تفوق الخمسين بالمئة، كاضطراب ما بعد الصدمة والقلق والاكتئاب، وتنبأت بعض الدوريات الطبية الهامة بانتشار أعراض الصدمة النفسية ما بين الطواقم العاملة مع مصابي الجائحة.
 وليس بعيدا عنا، أظهرت دراسة إسرائيلية في الأراضي المحتلة –والتي أجريت في ظل الجائحة - زيادة في طلبات العلاج النفسي بنسبة 300% أثناء الجائحة، كما بينت أن 25% من الإسرائيليين (أي ما يقارب ال 1.2 مليون إنسان) بعمر ال 16 فما فوق يعانون من تدهور في صحتهم النفسية، وأن 26% من الأطفال تتجه حالتهم العاطفية نحو الأسوأ. ولا تتوفر بحوث وبائية رسمية خاصة في الصحة النفسية في الأراضي الفلسطينية أثناء الجائحة، إلا أننا نتوقع نتائج أسوأ من تلك المذكورة في دول أخرى بسبب أن الضائقة الصحية والاقتصادية أضافت أزمة جديدة إلى رزمة الأزمات السابقة من انتهاكات مستمرة وممنهجة لحقوق الشعب الفلسطيني. وقد أشارت دراسة في (2019)   لمنظمة الصحة العالمية إلى ارتفاع معدلات انتشار الاضطرابات النفسية في مناطق النزاعات لتصل الى 22.1% ، وقارنت دراسة سابقة لرغيد شرارة (2017) بين عبء المرض النفسي في مناطق شرقي المتوسط فوجدت أن العبء الأكثر موجود في فلسطين.
السياق العام لخدمات الصحة النفسية في فلسطين
تعتبر فلسطين ضمن الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل بحسب المنهجية المتبعة للتصنيف حسب البنك الدولي، وكدول أخرى في الشرق الأوسط وشمال افريقيا تفتقر فلسطين إلى الطاقات البشرية العاملة في مجال الصحة النفسية، ويعيش ما يقارب ثلث الشعب الفلسطيني تحت خط الفقر غالبيتهم العظمى في غزة وللفقر أثر لا يمكن تجاهله على الصحة.
 وبينما تفضي الاضطرابات النفسية الى 13% من إجمالي عبء المرض العالمي بشكل عام، وإذا راعينا فقط عنصر العجز في حساب عبء المرض يتبين أن الاضطرابات النفسية تشكل ما يقارب ثلث سنوات العجز التي يعشيها الفرد في بلدان الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل.
وبالرغم من ذلك، لا يتجاوز عاملو الصحة النفسية 2% من مجمل العاملين في الصحة في فلسطين، ويصرف ما لا يزيد عن 2% من ميزانية الصحة على الصحة النفسية. ويعمل ما يقارب ربع الكوادر الطبية في فلسطين في وزارة الصحة، ومن بين ما يقارب 10.500 طبيب يوجد 32 طبيبا نفسيا فقط في شقي الوطن: الضفة وغزة، ويبلغ مجموع العاملين في مجال الصحة النفسية بالنسبة لبقية الكوادر الطبية العاملة في الوزارة 168/ 9.300، أي ما يقل عن 2% وذلك حسب البيانات المتوفرة لدينا من مركز المعلومات الصحية الفلسطيني،  وتقدر الفجوة في الصحة النفسية فـي فلسطين ب 85% ،أي أن 15% فقط ممن يحتاجون العلاج يحصلون عليه، وكلما كانت الأعراض أقل وضوحا زادت هذه الفجوة.
 وأينما يتواجد الاضطهاد السياسي وتغيٌب حقوق الإنسان تصاب منظومة العمل المؤسساتي بالإنهاك وتضعف الهياكل الاجتماعية وتتأثر الفئات الأكثر هشاشة ومن ضمنها المرضى النفسيون.
النوايا الحسنة لا تكفي لبناء المستقبل
وبالرغم من النوايا الحسنة تجاه الصحة النفسية إلا أن العديد من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل– ومن بينها فلسطين –لا تخصص الميزانيات المتناسبة مع العبء الكبير الذي تسببه الاضطرابات النفسية، حيث تعد الأمراض النفسية والعصبية وتعاطي المواد المخدرة من العوامل الرئيسية المساهمة في انخفاض الإنتاجية وتعطيل الموارد وزيادة الوفيات المبكرة في جميع أنحاء العالم، ناهيك عن شح الصرف على برامج الوقاية النفسية. وفي لغة الأرقام أشارت دراسة حديثة إلى أن الأثر العالمي التراكمي للاضطرابات النفسية من حيث فقدان الإنتاج الاقتصادي سيصل إلى 16 تريليون دولار أميركي على مدى العشرين سنة القادمة. ويمكن اعتبار هذا العبء الحالي والمتوقع للاضطرابات النفسية سببا كافيا وحده للاستثمار في الصحة النفسية عالميا ومحليا، كما أن العائد المادي لبرامج التدخل النفسي كالتدخل المبكر في حالات الذهان والوقاية من الانتحار والبرامج التعليمية للاضطرابات السلوكية له أثر إيجابي اقتصاديا وانسانيا، وفي دراسة نشرتها منظمة الصحة العالمية أفادت أن كل دولار أمريكي يتم استثماره في التوسع في علاج الاكتئاب والقلق يعود بفوائد قدرها أربعة دولارات أمريكية تنتج عن تحسن الصحة والقدرة على العمل.
ومن ناحية أخرى، يجب التنبيه إلى أن الاستثمار لا يقتصر فقط على زيادة الموازنة المالية والمقدرات والمخصصات المادية التي تنفق على المنشآت النفسية بل عليه أن يشمل أيضا بناء قدرات الكوادر العاملة والتنوع فيها وإنشاء طواقم متعددة التخصصات والتي تضم أخصائيي علم نفس الشيخوخة وعلم نفس الأطفال وأخصائيي القياس النفسيين وأخصائيي التأهيل الوظيفيين وأخصائيي النطق والإدمان ومحترفين من مدارس علاجية متنوعة. كما أن الظروف الحالية تحتم علينا أن يشمل الاستثمار أيضا تهيئة خطوط الهاتف والإنترنت لأن المستقبل يتجه بكل قوة إلى أن يصبح تقديم خدمات العلاج النفسي إلكترونياً، بالإضافة إلى ضرورة خلق بروتوكلات ملائمة للمحافظة على السرية وضمان جودة الخدمة المقدمة عن بعد، وكذلك تطوير برامج تدريبية للعاملين النفسيين على الهيئة الجديدة للعلاج وبرامج داعمة ومساندة لهم لمساعدتهم في تفادي الاحتراق النفسي الذي قد يتعرضون له بسبب ضغط العمل وأدواته الجديدة.
وفي النهاية، نود التذكير بأن نتائج الاستثمار في الصحة النفسية قد لا تكون قريبة الحصاد ولكن حلمنا بمستقبل جيد يتطلب الصبر الجميل.

______


مدير وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.