أسئلة معلقة حول «الاتفاق»
ستبقى هناك أسئلة، ليس من السهل تقبل «اتفاق سلام» بين الإمارات وإسرائيل، بين دولتين لم تخوضا حروبا ويفصل بينهما اكثر من ألفي كيلومتر، تقطنها دول وصحراء شاسعة وتضاريس وحدود، ستبقى الأسئلة معلقة ولن يبهّتها التكرار أو يدخلها في عاديات السياسة الكثيرة في المنطقة.
ما الذي يدفع دولة ناجحة وذكية وبعيدة مثل الإمارات، حققت الكثير في إدارة اقتصادها وتنويع استثماراتها، وحققت حضورا ثقافيا لافتا منحها نفوذا في أوساط النخب الثقافية العربية، وأنجزت بنية تحتية ثقافية حديثة ومتنوعة، الى الدخول في متاهة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي. يمكن مواصلة الحديث عن المنجزات التي حققتها دولة الإمارات والتي تبدأ من «ساحل القراصنة» كما أطلق عليها في القرن الثامن عشر حتى القرن الماضي، الى تحقيق الوحدة بين سبع إمارات على ساحل عمان، وتصل الى بناء وتشغيل أول مفاعل نووي في المنطقة العربية، والحقيقة أن تعداد هذه المنجزات هو بالضبط ما يعمق الأسئلة ويمنحها شرعيتها.
يفكر الرجل الذي يعبر في رام الله، مثلا، من أمام مستشفى الشيخ زايد بنفس السؤال الذي تسأله امرأة من غزة حصلت على شقة في مدينة الشيخ زايد بعد أن دمرت الطائرات الاسرائيلية منزلها في «جباليا»، وهو نفس السؤال الذي يثيره معظم المثقفين العرب.
كيف يمكن تحويل هذا الجهد الثقافي الى مواجهة مع غالبية الأوساط الثقافية العربية التي صدمها الاتفاق، ودفعها الى إعادة النظر في كل هذا المنجز ومحاكمته وإغراقه بالشكوك.
حتى لو واصل «مغردون» دفعهم الولاء الساذج او التكليف المخابراتي دفاعهم العدواني والمبتذل القائم على شيطنة الفلسطينيين، ومواصلة الحديث عن «نكران الجميل» و»السيادة» و»المصلحة الوطنية» وأشياء من هذا القبيل، فلن يقلل هذا الصراخ من حقيقة أن المنظومة الثقافية التي بنتها الإمارات عبر عقود طويلة قد تضررت تماما، وفقدت الكثير من نفوذها وانحسر تأثيرها في المنطقة، وأن جهودا كثيرة بذلها أفراد ومؤسسات عاملة قد ألقيت من النوافذ، وسيبدو الإعلان عن اتفاقية للتعاون السينمائي مع مؤسسات إسرائيلية لديها أنشطة في المستوطنات، نموذجا لهذا الابتذال والهرولة الى لا مكان دون تبصر.
تخوض حركة مقاطعة إسرائيل مواجهة ناجحة ضد الشركات والصناديق والجامعات ومراكز البيع والمؤسسات الثقافية الاسرائيلية او تلك التي تتعامل معها، وثمة مقاطعة ثقافية وأكاديمية ناشطة ومتنامية استطاعت عزل المؤسسة الثقافية الاسرائيلية في أكثر من مجال، وهي حركة نشطة وحيوية يتسارع قبولها ويتسع على امتداد العالم، ويشكل اتساع تأثيرها كابوسا حقيقيا لحكومة اليمين الفاشي في إسرائيل ولوبيات الضغط الصهيوني.
يمكن أن ينسحب هذا المصير على الاتفاقيات الاقتصادية التي جمعت مصارف إماراتية مع مؤسسات إسرائيلية على القائمة السوداء التي أعلنتها مفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، بسبب عملها في «المستوطنات»، وهو الإعلان الذي دفع العديد من الشركات العالمية الى وقف تعاملها مع الشركات الاسرائيلية تجنبا لملاحقات على وشك أن تقرها محكمة الجنايات الدولية.
لا يبدو اتفاق تطبيع الإمارات مع إسرائيل منفصلا وساذجا بالطريقة التي ظهر فيها، ولن تكون مقنعة فكرة أن الهدف من الاتفاق وتوقيت ومكان توقيعه ينحصر في محاولة إنقاذ نتنياهو وترامب وتحسين فرصهما الانتخابية، فقد تراجع الأول في استطلاعات الرأي، ولم يتقدم الثاني، ولا يبدو أنهم هناك ينظرون باهتمام الى الاستعراض، بل إن الإعلام الإسرائيلي تعامل مع الأمر بسخرية وبكثير من التعالي.
كما ان أحدا لن يصدق أن إسرائيل ستقوم بتوفير الحماية من إيران، ولا أظن أنها قادرة على ذلك، لقد تخلت إسرائيل عن حلفائها وعملائها دائما، من شاه إيران نفسه الى أنطوان لحد في جنوب لبنان، وصولا الى العملاء الفلسطينيين.
ولكن السؤال بعقله البارد يحاول البحث أين تكمن المصلحة الإماراتية من الاتفاق المعلن مع إسرائيل، دون أن يغفل تفكك المنطقة المحيطة بإسرائيل.
يذهب السؤال ولا يجد في الاتفاق سوى مصدر لخسارات كانت أبو ظبي في غنى عنها، لقد خسرت حجتها في معركتها في حصار قطر ولن يكون ممكنا الحديث عن تعاون الأخيرة مع الإرهاب بينما الإمارات توقع اتفاقية سلام وتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي والفاشية الدينية وممثلي العنصرية من القتلة في إسرائيل، وتقوض جهود حركة المقاطعة العالمية لكل ما له صلة بالمستوطنات، وتعرض مؤسستها الاقتصادية والثقافية لملاحقات قانونية بسبب ذلك.
وستخسر في اليمن إذ سيرتبط، منذ الآن، أي تحرك لها وللميليشيا التي جندتها هناك بتقديم التسهيلات لإسرائيل ومنحها موقعا تطل منه على باب المندب وإيران، وهذه جبهة واسعة وجديدة وستكون في مواجهة مع غالبية اليمنيين وليس مع الحوثيين وحدهم.
وهم يعرفون، الآن، انه إذا لم تتبعهم قوة مؤثرة في مشروعهم التطبيعي، البحرين لا تحسب والبرهان كذلك، فإنهم سيسقطون وحدهم في رمال متحركة من الخسارات لا نجاة منها إلا في مواصلة السباحة حتى الغرق.