سري نسيبة... واليأس كبرنامج وطني للفلسطينيين
نشر الأكاديمي الفلسطيني سري نسيبة أخيراً مقالاً يستعرض فيه الواقع الذي وصل إليه المشهد الفلسطيني في ظل التحولات العميقة التي تتسارع في المنطقة والعالم.استاذ الفلسفة الفلسطيني ابن القدس دأب على طرح أفكاره المثيرة للجدل بين وقت وآخر، أفكار تتسم بـ"الواقعية الشديدة" أو السذاجة، والبناء على ما آلت اليه الأمور، وهو ما جعل من هذه الأفكار سلسلة من الاقتراحات المتناقضة لا يربطها سوى وصف الواقع والسعي الى التكيف معه، مع تجاهل غريب لإمكان تغييره.
أثار نسيبة، خريج اكسفورد وعضو حركة "فتح"، في العام 2002 غباراً كثيفاً بعد إعلانه وثيقة مشتركة مع عامي أيلون، خريج هارفارد ورجل الأمن المتقاعد والقائد في "حزب العمل" الإسرائيلي في حينه. هدفت الوثيقة الى تقديم رؤيتهما لحل الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، رغم أن أي تأمل في بنودها، وهي بنود عامة، لن يجد اختلافاً كبيراً بينها وبين مبادئ "أوسلو" التي وقعتها منظمة التحرير مع حكومة رابين العمالية، إلا أن الجميع تقريباً هاجموا الوثيقة، بما فيهم أجنحة من حركة "فتح" التي ينتمي اليها نسيبة، وتعرض الى اتهامات بالخيانة صاحبتها سلسلة من التهديدات تطرف بعضها الى حد "إهدار دمه".
ولكن ذلك لم يمنعه من الترشح لعضوية اللجنة المركزية لحركته في مؤتمرها السادس الذي عقد في بيت لحم عام 2009، وستشكل عضويته كمندوب في المؤتمر وترشحه للهيئة القيادية الأعلى في الحركة، رغم خسارته، إشارة الى أنه يمثل اتجاهاً، رغم ضعف تأثيره، إلا أنه يتنفس في صفوف "فتح".
سيتراجع نسيبة عن وثيقته مع أيلون في ما بعد، ليس بسبب التهديدات ولكن "لأن الواقع تغير" ولم يعد ممكناً تطبيق بنودها، وسيطرح فكرة الكونفدرالية مع الأردن كبديل وحيد ومنشود على أنقاض برنامج الدولة المستقلة، وسيتراجع لاحقاً عن فكرة الكونفدرالية بسبب "الواقع الجديد".
في مقاله الجديد، وبناء على "الواقع الجديد" أيضاً، يرى نسيبة أن الحل يكمن في التوقف عن "مطاردة الحلول"، وأن مهمة الفلسطينيين الوحيدة الآن هي محاولة التنفس وتحسين واقعهم المعيشي، وهو كما يتضح برنامج مصمم للقضاء على البرامج، في خدمة مجانية، غير مطلوبة، لتأبيد واقع الاحتلال من جهة، والإبقاء على النظام السياسي الفلسطيني المتهالك من جهة أخرى.
يصعب التعامل مع اقتراح نسيبة الجديد من دون وضعه ضمن سلسلة اقتراحاته المتدرجة من "الدولة المستقلة على حدود 67"، الى "الكونفدرالية مع الأردن"، والآن "التوقف عن مطاردة الحلول"، ويصعب اجتزاؤه من ماضي أفكار الرجل، أو عزله عن تطور هذه الأفكار حتى وصولها الى الفراغ الذي يقترحه.
كما يصعب عزل ما يمثله نسيبة عن شريحة تتجاوز ظاهرة الهشاشة الأكاديمية في الشأن الوطني، لتضم شرائح مجتمعية من العمال والتجار ورجال الأعمال وأصحاب المصالح في المجتمع الفلسطيني، وهي شرائح ستجد في ما يقوله أستاذ الفلسفة المقدسي صدى لأفكارها.
يبدأ سري نسيبة اقتراحه الأخير من مقدمات شبه متفق عليها، هو يفعل ذلك دائماً، وصف واقعي مع فواصل سوداوية بين الإشارات للمشهد الفلسطيني. يبدأ من الخسارة وافتقار القيادة الى الكفاءة والواقعية وانهيار المحيط وتبدل المسلمات، ويتدرج في استنتاجاته، كأي أكاديمي متمرس، نحو اليأس، ثم يطرح الحل كمن يجد مخرجاً من كل هذا السواد.
"لقد فشلنا في كل شيء"، يقول نسيبة، انظروا بأنفسكم لم يبقَ لدينا شيء. فشل السلاح وفشلت المفاوضات وتخلى عنا الأشقاء، "الأشياء تتداعى"، في استعارة لعنوان ومضمون النيجيري تشينوا اتشيبي، والأيام تنحدر نحو الأسوأ. العالم لا يحبنا كما كنا نعتقد، انه مشغول بمصالحه التي لا نمثلها وحاجاته التي لم نعد منها وهو يسحقنا الآن، الأدوات التي احتفظنا بها منذ النكبة لم تكن مناسبة كما اخبرونا، لقد غرقنا في "بلاغة التحرير"، وعلينا الآن أن نفكر في أنفسنا بعيداً عن البلاغة التي غرقنا فيها.
يستثمر نسيبة في رؤيته بلاغة مضادة تتغذى على البلاغة السائدة، انعكاس مصقول للمتداول يدّعي الحكمة، ويحاول، بالمواد نفسها، أن يكون اعتراضاً عليها.
في الخلفية تتحرك أشباح ويتجشأ آخرون في العتمة، أولئك الذين يخطئون دائماً، "هم" الذين قادونا الى هذا الكمين حيث الهاوية خلفنا مباشرة تجرح حوافها أقدامنا، والجدار أمامنا يطرق رؤوسنا، المكان ضيق كما ترون، يواصل نسيبة لطميته، وعلينا أن نتخلص من كل شيء، لنتمكن من النجاة. علينا أن نلقي كل ما نحمل وكل ما جمعناه من دون تمييز، البرنامج الوحيد المتبقي هو البحث عن هواء نقي لنتنفس.
يرى نسيبة في خلاصة يقينية أن كل شيء قد انتهى، وأن هزيمة شاملة لـ"المشروع الوطني الفلسطيني" قد اكتملت، وأن على الفلسطينيين الاعتراف بالهزيمة عبر التوقف عن مطاردة الحلول.
في حوار قديم مع الصحافة، عام 2016، الحوار الذي تراجع فيه عن وثيقته مع أيلون واقترح الكونفدرالية مع الأردن كبديل، اعتبر أن لا قيادة في القدس بعد رحيل "فيصل الحسيني" وتخلي منظمة التحرير عن "العاصمة"، وأن لا قيادة في رام الله بعد رحيل عرفات، ما يجعل من الفلسطينيين مجرد مجاميع تتقدم نحو الهاوية، الهاوية التي عثر عليها في مقاله الأخير عام 2020.
يخلط نسيبة بين الوسائل والأدوات، ويرى في فساد الأداة فساداً للوسيلة. يخلط بين وعي الجمهور ووعي الفصائل، ويعزل بوعي أي إمكان للتغيير يمكن أن يتسلل في العتمة التي استحضرها.
في 1987 كانت الفصائل، تقريباً الفصائل نفسها الموجودة حالياً، مشغولة بمناورات سياسية بلا معنى، في محاولات للفت الانتباه وتحريك المياه التي ركدت. وكانت عملية تجفيف مصادر المنظمة في أوجها، بعد توزيع قواتها وكوادرها على أكثر من أربع دول عربية، الجزائر تونس اليمن السودان وسوريا، وكانت "حرب المخيمات" ساخنة، حين حاصرت حركة "أمل" بدعم مباشر، لوجستي وميداني وسياسي، من نظام حافظ الأسد، المخيمات الفلسطينية في لبنان لتصفية آخر جيوب منظمة التحرير هناك، و"فتح"، العمود الفقري للمنظمة، مقسمة بين تونس في شمال أفريقيا و"فتح الانتفاضة" في دمشق.
عندما انفجرت الانتفاضة الكبرى في الأرض المحتلة من وراء ظهر الجميع، الفصائل والمنظمة والنظام السوري والاحتلال، بدأت من حادث دهس عمال في جباليا وامتدت لتشمل كل مناطق الضفة وقطاع غزة. يعرف سري نسيبة جيداً وهو الذي كان قريباً من الانتفاضة في حينه، أن لا علاقة للفصائل والأحزاب وبرامجها وأمنائها العامين بتلك الحركة الشعبية المذهلة، ولكنها أنقذت الجميع: المنظمة والفصائل والبرامج والأمناء العامين، الذين لحقوا بالحركة، لقد منحت الانتفاضة منظمة التحرير زمناً جديداً، سأتفق مع نسيبة في أنها بددته، وسأختلف معه في أننا فقدنا أدوات التغيير. الثورات أحداث غير مقصودة في الغالب، ولا يمكن حشرها في اختبار أكاديمي أو تجربة كيميائية.
يقترح نسيبة العمل على تحسين شروط الحياة اليومية للفلسطينيين عبر التنمية الاقتصادية لتحصين بقائهم في بلادهم تحت الاحتلال. نوع مدروس من "السلام الاقتصادي"، ومحاولة صيد الحقوق كلما سنحت الفرصة، ويربط ذلك بوحدة رومانسية غامضة للشعب الفلسطيني في كل مناطق تجمعاته.
"السلام الاقتصادي" هو فكرة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أيضاً، وهو ما يحاول من خلاله وضمن رؤية عنصرية صافية، إلغاء الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ضمن معادلة بسيطة؛ الغذاء والعمل مقابل البقاء والحياة.
وللحقيقة أن الفكرة بنسختها الوطنية القائمة على تعزيز صمود الفلسطينيين وبناء مؤسساتهم على الأرض عبر شبكة واسعة من المشاريع والمشاريع الصغيرة التي تمس الحياة اليومية للفلسطينيين، والنهوض بمقاومتهم من دون ربط ذلك بالأداء السياسي وانتظار نتائجه، لم تكن بعيدة من برنامج رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض، الذي قدم أخيراً قراءة جدية للواقع والبدائل تصعب مقارنتها بأفكار نسيبة المهلهلة. لعل ذلك البرنامج كان البرنامج الحقيقي الوحيد، بما له وما عليه، الذي حاول أن يخرج من بلاغة السياسيين والعمل على الأرض وتعزيز البنية التحتية بمكوناتها الشعبية والمادية كرافعة سياسية للدولة المنشودة، وليس إسقاط المنجز السياسي وتكييف الواقع بناء على حجم المنجز.
ولكنها، خطة سلام، تعرضت في حينها الى حرب من أجنحة متنفذة في السلطة وبعض مراكز القوى في حركة "فتح" واليسار والإسلام السياسي، وطبعاً الاحتلال، كل انطلق في هجومه من برنامجه ومصالحه ورؤيته.لم يقدم نسيبة ما تمكن مناقشته، ولكنه أثار الغبار كما يفعل عادة. في وثيقته مع أيلون كان يتغذى على اتفاقية "أوسلو" وملفات "كامب ديفيد"، وفي اقتراح "الكونفدرالية" كان يتغذى على أفكار "الليكود" وانهيار النظام العربي، وفي قراءته الأخيرة قدم يأسه الشخصي كبرنامج وطني للخلاص.