البيضاء لم تهرب، لا أحد يعرف لماذا
مقالات

البيضاء لم تهرب، لا أحد يعرف لماذا

النور انطفأ، ابتلعه برد المدينة وطلقات غزاتها، في غرفة صغيرة داخل بيت كبير التصقت امرأة بيضاء وفتاة سمراء بزاوية جدار، التصقتا رعباً من ليل طويل عاصف، وطلقات مجاورة لا تغادر أبداً، النوافذ مفتوحة على مصراعيها، الريح تطّوح بالستائر ترميها داخل البيت حيناً وحيناً خارجه، المرأة والفتاة لا تجرؤان على إغلاق النوافذ خوفاً من طلقة طائشة، الغرفة ضيقة، المرأة لا تعرف الفتاة، فوجئت بها تدخل البيت الكبير الواقع على تلة عالية فجأة حين طاردتها الرصاصات وطاردت كل أشياء مدينتها، تشوشت أوضاع المدينة وحركة سكانها بفعل الاجتياح المفاجئ... الذين فاجأهم الاجتياح دخلوا أول بيت صادفوه في طريقهم، بعض البيوت رفضت فتح أبوابها خوفاً من تبعات إيواء المطاردين، بيوت أخرى اقتحمت من قبل الناس التائهين المذعورين، فاضطر أهلها إلى الترحيب بهمس وتوتر.
المدينة لم تعد مدينة، صارت سجناً جماعياً، والسكان لم يعودوا سكاناً، صاروا كائنات مطاردة دائخة، تتراكض من شارع إلى آخر، من بيت إلى بيت.
تغيرت معالم سكان المدينة، اختلطت أعمارهم وفئاتهم وهوياتهم، قد تجد أربع فتيات خجلات في بيت مهجور فاخر تواجد فيه شاب مطارد هو الآخر، وقد تجد امرأة واحدة في غرفة شاحبة لطلاب جامعيين، وقد تصادف رجلاً عجوزاً في بيت امرأة مطلقة، تعيش مع ابنها الرضيع، وبالإمكان سماع بكاء بنت صغيرة في غرفة معتمة لعجوز مخيفة العمى والتجاعيد والغمغمات...
مستشفيات المجانين ودور المسنين اقتحمت أبوابها، اختلط المجنون بالعاقل، والمسن بالشاب، الأغنياء جلسوا على حصيرة الفقراء، الفقراء مرغوا عيونهم الفقيرة بفراش الأغنياء الدافئ، المجرمون والفاسدون واللصوص والعملاء حشروا مع أئمة المساجد ورؤساء الأحزاب والمعلمين في غرف رطبة صغيرة، الكل صامت، لا قوة له ولا حول، الدبابات والريح وحدهما من يتكلمان وبصوت عال.
الفتاة السمراء، طرقت باب أول بيت صادفها في طريقها الهائم على خطوات الراكضين، لم يفتح الباب، فاضطرت إلى ركله وهي تصيح، أطلت امرأة خائفة من وراء الستارة، فتح الباب، دخلت ...
الليل جاء يعرج بسره الدامي وغموضه ونهاره البعيد، سكتت الأنفاس عن اللهاث، المساجين، رضوا بقدرهم، بلا نوم وبعيون واسعة وجامدة انتظروا النهار القادم.
لم تسأل المرأة والفتاة بعضهما البعض عن اسميهما أو عملهما، في البداية لم تتكلما كثيراً، انكمشت كلاهما على سرها الخاص ومخاوفها الشخصية، التصقتا مقابل بعضهما البعض بجدار، غارقتين بعتمة غرفة باردة، شفاههما تهتز، أيديهما تبكيان، ووحدها الريح ترقص مع الستارة رقصة حب غريب.
الطلقات لا تسكت، كأنها مذياع مفتوح نسيه شبان ماجنون أثناء رحلة ممتعة في غابة.
نهضت المرأة البيضاء تتلمس طريقها متكئة بيدها على الجدار، باتجاه المطبخ، لم تحرك السمراء ساكناً، بقيت جامدة تحدق في العتمة، عادت البيضاء بكأسي ماء، قدمت إحداهما للسمراء، شربت السمراء الصغيرة، كأنها لم تشرب منذ عام، جلستا بجانب بعضهما البعض، استطاعتا الآن أن تسمعا أنفاس بعضهما البعض... أنفاس خافتة كأنها همس شجرتين وحيدتين ترثيان ورطة وجودهما على سفح جبل وعر وقاحل.
البرد، الموت، العتمة، مدينة خرساء، فتاة صغيرة وامرأة، الكتف تميل على الكتف الأخرى، الدبابة تميل بثقلها المروع على الجدران والسيارات وحيطان البيوت المحاذية للشارع العام، صياح أصحاب البيوت يختلط مع صياح الريح، باطن اليد البيضاء على ظاهر السمراء، والرّكب تنحني باتجاه بعضهما البعض، الطلقات تدخل من النوافذ، وتستقر في خزانة الثياب، البرد لا يرحم، العتمة لا تهدأ، الريح متوحشة متوحشة متوحشة،
الخد الأبيض على الخد الأسمر وكل يد تبحث عن الخلاص في اليد الأخرى.
كان يجب أن أكون هناك في حضن أمي ففي أحضان الأمهات تخرس الطلقات وتذوب العتمة.
أمي مريضة قلب وقد تموت في أي لحظة بسبب قلقها على غيابي.. اليد البيضاء تمسد شعر الفتاة السمراء، كأنها تجيبها: أنا أمك، الدموع الصغيرة تتجمع في حضن اليد البيضاء نقية ورشيقة وحارة تغسل البيضاء وجهها بدموع السمراء، الوجه الأسمر في حضن المرأة البيضاء مغمض العينين، تائه، دبق وحزين، الأنفاس تشتبك مع الأنفاس، العيون الأربع مغمضة... كان يجب أن أكون هناك في حضن زوج خانني وهرب مع صديقتي، عشرون عاماً من الحب الكاذب وفجأة يهرب مع أعز صديقاتي دون تفسير، دون اعتذار.
فتحت الفتاة السمراء عينيها المندهشتين على وقع دموع البيضاء الثقيلة، رفعت وجهها ودفنت رأس السمراء بين نهديها الصغيرين، دوت رصاصة جديدة فوق رأسيهما مباشرة، صرختا التصقتا ببعضهما البعض أكثر، زحفتا على الأرض واندستا تحت لحاف ثقيل، جسد واحد، دموع واحدة، عتمة بداخل عتمة، أنفاس تختبئ في أنفاس أخرى.
لو ماتت أمي، وأنا بعيدة عنها سأموت بعدها مباشرة، على الأقل أكون بجانبها وهي تموت، ليس لي غيرها في هذا العالم، وليس لها غيري...
تركني زوجي لأني لا أنجب، قد يكون معه حق في الرغبة بأولاد ولكن ليس بهذه الطريقة، فقط لو أنه اعتذر أو حضنني وهو يقرر...
رصاصة أخرى... التصاق أقوى... الوجه الأبيض مدفون في مجرى النهدين السمراوين، السمراء تحوط الرأس بيديها، وهي تهمس: آه يا أمي كم أود أن أكون بجانبك الآن، أعرف أنك تموتين، سامحيني، آه يا أمي...
البيضاء في فمها قطعة لحمية صغيرة تتلمظها، السمراء تتأوه، آه يا أمي.
رصاصة أخرى... آه يا أمي.
الأسنان تطبق على القطعة المذهولة التي أفاقت الآن من سبات طويل، تشهق السمراء وتوشك على الموت، ولا تدري ما الذي يحدث لجسدها، جيوش من النمل تمشي في أطرافها والرصاص لا يهدأ.
السمراء لا تعرف أن البيضاء كانت تكذب، فلا زوج هناك، لا صديقات، ولا أمل بأولاد، كيف للسمراء أن تعرف أن البيت الذي تتواجد فيه الآن ليس بيتاً عادياً، وأن المرأة البيضاء ليست صاحبة هذا البيت، هي نزيلة فيه مع عشرات النزيلات الضاحكات اللواتي هربن مع الريح إلى المجهول مع انطلاق موسم الهرب.
البيضاء لم تهرب، لا أحد يعرف لماذا...
هل شبعت هرباً؟ إلى أين ستهرب لم يعد أحد يصدق أنها رسامة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.