من «الضمّ الزاحف» إلى «الضمّ بالأمر الواقع»
هل تخلت إسرائيل والولايات المتحدة عن مشروع الضم، كما ورد في خطة ترامب – نتنياهو، أم أن حكومة نتنياهو علّقت العمل مؤقتاً بالخطة، أم أن الضم ما زال ينفذ بأشكال هادئة بعيداً عن الأنظار؟
دولة الإمارات العربية المتحدة تقول: إنها وقعت اتفاق التطبيع والشراكة مع دولة الاحتلال مقابل وقف الضم، واستئناف المفاوضات الثنائية بديلاً له.
بعض الأوساط الفلسطينية ترد على الإمارات بالقول: إن تصدي السلطة لمشروع الضم هو الذي أرغم نتنياهو على وقف العمل بالخطة.
ديفيد فريدمان سفير الولايات المتحدة في إسرائيل يؤكد، في كل مناسبة، أن الضم قائم، وأنه تأجل العمل به لفترة معينة.
وزير شؤون المخابرات الإسرائيلية وأكثر من مصدر إسرائيلي وأميركي يتحدثون عن خطوة تطبيع كبرى، ستضم خمس دولة عربية، دون الإفصاح عنها، والخطوة مؤجلة لما بعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة.
إذاً.. حسب كل هذا، فإن خطة الضم معلقة. غير أن الواقع يقول عكس ذلك، فخطة الضم لا تطبق بالضربة القاضية، بل هي تطبق بالخطوات الميدانية، قطعة قطعة، إلى أن يتم تجميع كل القطع لتبدو اللوحة واضحة أمام الجميع، أنجز الضم، ولم يبقَ سوى الإعلان الرسمي عنه.
فإذا راجعنا الخطوات الإسرائيلية الأخيرة، أي منذ أن تم الإعلان عن تعليق الضم يمكن أن نلاحظ التالي:
1) انتهت حفلة الاحتفاء باتفاقات التطبيع مع الإمارات والبحرين، فعادت ورشة الاستيطان تنهب الأرض، في القدس والخليل وأنحاء مختلفة في الضفة الفلسطينية، وصولاً إلى بناء الكتلة الاستيطانية الرابعة، التي تربط بين رام الله والقدس، وتقيم «القدس الكبرى» (الميتروبوليتان) بحيث تنقسم الضفة إلى «إقليمَين»، منفصلَين، تربط بينهما كتل استيطانية وطرق التفافية.
وكما أوضح لنا بعض الأصدقاء في أحد مراكز الأبحاث الفلسطينية المرموقة، فقد بادر خبراء الاستيطان فيه إلى إعادة رسم خارطة الاستيطان في الضفة بالألوان، بحيث تبدو الفوارق فاقعة بين المناطق الفلسطينية ومناطق المستوطنات. ليتبين أن المدن الفلسطينية في الضفة باتت كلها مطوقة بحزام من المستوطنات. يحاصرها من كل الاتجاهات، ويجعل منها «غيتو» فلسطينياً في بحر من المستوطنين، لا يستطيع سكان هذا الغيتو التحرك خارجه إلا عبر مناطق الاستيطان، حيث تقوم الحواجز العسكرية والأمنية الإسرائيلية. وكأن الضفة الفلسطينية باتت مستوطنة كبرى، تنتشر فيها تجمعات سكنية فلسطينية، مرشحة لأن تكون يوماً ما أقلية، مقابل أكثرية إسرائيلية يهودية.
ويدرك خبراء السياسة والاستيطان، والعارفون ببواطن الخطط الإسرائيلية أن الاستيطان هو عنوان آخر للضم، وأن كل استيطان هو في واقع الأمر خطوة في إنجاز خطة الضم. فدولة الاحتلال لا تبني المستوطنات لتهديها في نهاية المطاف إلى الفلسطينيين. «نحن نبني في بلدنا. هذه أرضنا». هكذا يقول نتنياهو، وهكذا ينفذ خطة الضم، عبر الاستيطان، كمحور رئيس من محاور الخطة.
2) القفزة الكبرى، في تطبيق خطة الضم، تمثلت في قرار حكومة الاحتلال بإخضاع المستوطنات لقوانين الدولة الإسرائيلية، بعدما كانت تخضع للإجراءات الإدارية للإدارة المدنية لسلطة الاحتلال. ما يعني، في التطبيق العملي، «فرض السيادة» الإسرائيلية على المستوطنات، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من دولة إسرائيل، يسري عليها ما يسري على تل أبيب، على سبيل المثال.
هذه القفزة، تعني عملياً، وقانونياً وسياسياً، ضم المستوطنات إلى دولة إسرائيل. وأنها لم تعد أمراً تفاوضياً في مفاوضات الحل الدائم [إذا ما انعقدت هذه المفاوضات !]. أي أن المستوطنات أصبحت خارج جدول أعمال أي مفاوضات قادمة.
3) الخطوة «القانونية الاقتصادية» التي تؤدي في نتائجها إلى فرض الضم كأمر واقع، وتسهم إلى حد كبير في تعميق دمج الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، كانت حين منحت حكومة الاحتلال شركة الاتصالات الإسرائيلية، «بيزك» صلاحية العمل في المناطق الفلسطينية المحتلة، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من «السيادة الإسرائيلية» و»منطقة اقتصادية إسرائيلية»، ما يعني في الواقع العملي، إعلاء القرار «السيادي» الإسرائيلي على القرار الفلسطيني، وتجريد السلطة الفلسطينية من صلاحياتها في قطاع الاتصالات، وتأكيد واقعها مجرد إدارة ذاتية خدمية محدودة الصلاحيات وفق ما ترسمه الإدارة المدنية للاحتلال، دون أي مرجعية رسمية تشكل معياراً للعلاقة بين الطرفين، لا اتفاق أوسلو، لا بروتوكول باريس. أصبحت المرجعية الوحيدة، هي خطة ترامب – نتنياهو، ومشروع الضم الذي يتم العمل على تطبيقه بقوة الأمر الواقع.
4) ولم تقتصر إجراءات الضم على سلطات الاحتلال، بل أسهمت إدارة ترامب إسهاماً مباشراً في ذلك حين رفعت الإدارة الأميركية (28/10/2020) حظراً كان مفروضاً منذ عشرات السنين، «يمنع استخدام أموال دافعي الضرائب الأميركيين في تمويل الأبحاث العلمية الإسرائيلية في المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة». واحتفاء بالقرار وقع الاختيار على مستوطنة «أرئيل» التي تضم جامعة إسرائيلية، لتكون مكان الاحتفال بتدشين مسار جديد في التعاون العلمي، ينزع عن المستوطنات صفتها غير القانونية، ويعيد لها «الاعتبار الإسرائيلي» جزءاً من دولة إسرائيل.
نتنياهو لم يستطع إخفاء علامات نصره، حين صرح أن القرار الأميركي والاتفاق مع فريدمان «هو نصر مهم على كل من يسعى لنزع الشرعية عن كل ما هو إسرائيلي بعد حدود 1967».
5) في السياق نفسه، وبخطوات أكثر خطورة، يعمل ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي على تشكيل هيئة خاصة من المفتشين، من سكان المستوطنات، مهمتها «توثيق وتجميع معلومات استخباراتية عن البناء الفلسطيني «غير المرخص» في الضفة الفلسطينية.
موازنة الهيئة 20 مليون شيكل، مرجعيتها وزارة الاستيطان. وتقدم تقاريرها إلى الإدارة المدنية لسلطات الاحتلال، التي تحتكر امتلاك سجل أراضي الضفة الفلسطينية كاملة، وتعلن نفسها في الآونة الأخيرة الجهة الوحيدة المخولة بمنح رخص البناء للفلسطينيين. ولقد سبق لها وأن هدمت عشرات المنازل في وادي الحمص بجوار القدس (منطقة أ) ومناطق أخرى بدعاوي مختلفة، منها «قانوني» (غير مرخصة من سلطات الاحتلال) ومنها «أمني» (وهي الذريعة التي تلجأ إليها سلطات الاحتلال لتبرر تهديمها لمنازل الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم).
ومن المهام الأخرى لهؤلاء المراقبين، مراقبة «المواقع التاريخية والتراثية» في الضفة، لمصادرتها من قبل سلطات الاحتلال باعتبارها «تراث الشعب اليهودي».
6) وفي الإطار نفسه، الصراع المفتوح للاستيلاء على الأرض الفلسطينية وتهويدها باعتبارها «أرضنا وبلدنا»، كما يقول نتنياهو، لم يعد سراً أن الإدارة المدنية لسلطات الاحتلال بصدد اعتماد «آلية بديلة» للاستيلاء على الأرض، وتجاوز كل القوانين، والتفلت حتى من قرارات المحكمة العليا، التي تتقبل تظلم الفلسطينيين المصادرة أرضهم، والتي قلما حكمت لصالحهم.
«آلية» الإدارة المدنية لسلطات الاحتلال، هي مسح أراضي الضفة الفلسطينية وتصنيفها بقرار تعسفي بين «أراضي دولة» و»أراض خاصة». أراضي الدولة تعود ملكيتها في هذه الحالة إلى دولة الاحتلال باعتبارها هي «الدولة الوحيدة» في المنطقة، ويدخل في باب التصنيف «أراضي الدولة»، تلك الأراضي التي تعتبر إسرائيل الاستيلاء عليها «ضرورة أمنية». أو تلك الأراضي التي مضى على «إهمالها» من قبل أصحابها سنوات وظلت بلا زراعة، أو الأراضي التي تدخل في باب «المحميات» أو تلك «المنوي» إقامة قواعد عسكرية عليها، أو تلك التي تشكل «حاجة ضرورية» لتوسيع المستوطنات أو منحها عمقاً إدارياً لمستقبل الأيام.
وبناء عليه تعيد الإدارة المدنية رسم خارطة الضم، فتمحو العلامات بين مناطق (أ) و(ب) و(ج)، كما صنفها اتفاق أوسلو، وتصبح كل المناطق عملياً منطقة (ج)، أي تحت السيطرة التامة لسلطة الاحتلال. ولا تخضع الخارطة الجديدة، لأي نقض قضائي قد يلجأ إليه الفلسطينيون. أي عملياً ضم أوسع الأراضي لدولة إسرائيل بقوة الأمر الواقع.
ليست هي المرة الأولى التي تعمل دولة الاحتلال على بناء واقع جديد بالإجراءات الميدانية، لتضع العالم أمام هذا الواقع، وتدفع لأن يسلم به.
الآن تلجأ دولة الاحتلال إلى التطبيق الميداني لخطة الضم، من خلال الانتقال من «الضم الزاحف» إلى «الضم بالأمر الواقع»، وبحيث، عندما يتم الإعلان عن استئناف تطبيق خطة الضم، تكون إسرائيل قد أنجزت الخطة، ووضعت المجتمع الدولي أمام واقع جديد، ترى صفقة ترامب – نتنياهو أنه الأرضية الميدانية، والمرجعية العملية لأي مفاوضات قد تستأنف مع الفلسطينيين.