أصدقـــاء الطفــولة ذكريات تقاوم
إجتمعت بعد نصف قرن من العمر أو يزيد ، مع أصدقاء و صديقات الطفولة ، في إطار وفره لنا التقدم التكنولوجي و الإتصال الإجتماعي .. فكان هذا الإتصال و التجمع الجديد بمثابة ترميم لما أصابنا من عطب أو تعب بفعل تزاحم إشكالات و تعقيدات الحياة ، أو بفعل ما إقتنصناه من ملذاتها و نعيمها الذين أفقد بعضنا توازنه لفتره ، ثم ما لبث أن أدرك أن هذا التحليق و ذاك التنعم لا معنى و لا طعم له بغير العودة إلى الجذور و الإنصهار و اللإلتحام بماض كان هو رافعة أي تقدم وأصل أي فرع شط و ارتفع باسقاً لينافح العواصف و يخترق الغيوم .. وعلي هنا أذكر بعض ما قال أدودنيس : أدونيس: في العامِ الألفيْنِ أعني الآنَ، عنيتُ غدًا، أو بعدَ غدِ، أدعوكَ إلى مائدتي وتكونُ الشمسُ، يكونُ الماءُ، يكون العشبُ ضيوفًا نتخاصمُ، أيَّ رؤانا أعصفُ أيُّ خُطانا أنأى نتصالحُ تحتَ سماءِ الشعر ونعلنُ مملكةَ الخصميْنْ ووَحدةَ هذينِ الخصميْن ..
في ظل الضيق و العتمة التي تسود العالم بفعل الحروب و الهجرة و البعد و الوباء، جاءت فكرة التجمع من جديد لتشكل لكل واحد منا رئة جديدة ، نتنفس بها هواء نقياً خالياً من شوائب المصالح و الحقد و التنازع على مناصب أو مكاسب .. جاءت لتعيد لنفسياتنا كما وجوهنا نضارتها و تبث فينا الأمل بعد طول سفر و ترحال .. أصبح الأصدقاء و الصديقات في اليونان و هولنده و غزة وأمريكا ودبي و الأردن أقرب إلى بعضهم البعض من حبل الوريد .. و عل خير ن عبر عن هذا المعنى ، كان إيليا أبو ماضي:
يا مَن قَربتَ من الفؤا دِ وأنتَ عن عيني بعيدْ
شوقي إليكَ أشدُّ مِن شوقِ السليمِ إلى الهُجودْ
أهوى لقاءَكَ مثلَما يَهوى أخو الظمأِ الورودْ
وتصدُّني عنكَ النّوى وأصدُّ عن هذا الصدودْ
وردت نَميقَتك التي جمعتْ من الدُّرِّ النضيدْ
فكأنّ لفظَكَ لؤلؤٌ وكأنّما القرطاسُ جيدْ
الحقيقة أن كل منا أصبح يبحث عن ذاته من خلال بحثه عن أصدقائه الذين شاركوه مرحلة وضع الأساسات و غرس الجذور التي شكلت شخصيته ، الحنين إلى التربة التي رويت بثقافة وطننا الحبيب فلسطين و رسمت تضاريس نفسياتنا و فكرنا ، وسلّحتنا بما نستطيع أن نواجه به الأيام و السنين الخضراء و العجاف منها .. و في كل هذا ، و رغم البعد ، و رغم أن كثيراً منا أصبح يحمل جوازات سفر ، و جنسيات أخرى ، إلا أن البحث عن الدين ، و الفن ، و الثقافة ، و رائحة زهر البرتقال و الليمون في البلد ، عن الأهازيج و الألات و الوصفات و فيروز و حليم و أم كلثوم ، و أغاني الثورة و علم فلسطين ـ وفن التطريز و أسماء المدارس و المدرسين و الشوارع و المقاهي ، و الأحداث هي الجامع وهي العمود الفقري للجميع .. والنقاش حول توريث الوطنية ، و الإنتماء للأبناء و الأحفاد ، يسود و يبدأ و ينتهي ثم يعود .. كأنه الهاجس ، كأنه سبب الوجود ، و كأنه الحبل الجيني المعقود الممدود ، الذي لا تُغير ملامحة جوازات سفر و لا جنسيات و لا مسافات بين دول و قارات ، إنها المقاومة بسلاح الذكريات ، سلاح الوجدان ..